جلس يوماً ما الخليفة أبا جعفر عبد الله بن محمد المنصور العباسي مع بعض أصحابه ، فسألهم أتدرون من هو صقر قريش؟
فقالوا له : هو أنت.
فقال لهم: لا.
فعدّدوا له أسماءً حتى ذكروا له معاوية بن أبي سفيان وعبد الملك بن مروان من بني أمية.
فقال أيضا: لا.
ثم أجابهم قائلا:” بل هو عبد الرحمن بن معاوية، دخل الأندلس منفردًا بنفسه ، مؤيّدًا برأيه ، مستصحبًا لعزمه، يعبر القفر ويركب البحر حتى دخل بلدًا أعجميًا فمصّر الأمصار وجنّد الأجناد ، وأقام ملكًا بعد انقطاعه بحسن تدبيره وشدة عزمه”.
فمن هو ذلك الرجل الذي إستطاع أن يفعل كل هذا وهو المطارد المهدور دمه؟
نسبه:
هو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية سليل ثلاثة خلفاء أمويين هم هشام بن عبد الملك وعبد الملك بن مروان ومروان بن الحكم.
حياته في دمشق وهروبه منها:
نشأ عبد الرحمن في بيت الخلافة الأموي بدمشق ، وكان الفاتح الكبير مسلمة بن عبد الملك عم أبيه يرى فيه أهلاً للولاية والحكم وموضعًا للنجابة والذكاء ، وسمع عبد الرحمن ذلك منه مشافهةً، مما أثّر في نفسه أثرًا إيجابياً.
عندما أقام العباسيون دولتهم على أنقاض الدولة الأموية، كان هدفهم تعقب الأمويين والقضاء على أفراد البيت الأموي، فقتلوا الأمراء وأبناء الأمراء بل وأحفادهم، وكل من توقعوا أن يكون أهلاً للإمارة خشية محاولة أحدهم استرداد مجدهم لاسيما في الشام، لهذا بذلوا الجهود المضنية لتحقيق هذا الهدف.
نجح عبد الرحمن بن معاويه بن هشام الذي اختبأ في قريه منعزلة قريبة من الفرات في الشام ، وكان معه ابنه الطفل سليمان وكان عمره وقتها أربع سنوات، وأخ أصغر مع أختين.
وعندما اكتشفت الشرطة مكانهم هرب عبد الرحمن مع أخيه الوليد بن معاوية عبرا بعض البساتين فلما تعقبتها الشرطة ، حاولا عبور النهر فأغراهما الشرطة أن يرجعا ولهما الأمان فرجع أخوه وغرر به وقتله العباسيون، وكان عمرة ثلاث عشر سنة ، بينما نجح عبدالرحمن بالوصول إلى الضفة الاخرى بسلام ولم تنطلِ عليه مكيدتهم ولحق به مولاه بدر طبقاً لخطة سابقة.
بعد ان فر عبد الرحمن بن معاوية من الشام وصل إلى القيروان وعمره تسع عشرة سنة ، وهناك وجد ثورة كبيرة للخوارج في الشمال الأفريقي كلّه وعلى رأسها عبد الرحمن بن حبيب ، وكان قد استقلّ بالشمال الإفريقي عن الدولة العباسية، وكان هنا الخوارج الخارجين عن الاسلام والدولة الأمويين والدولة العباسية من بعدها فقد كان عبد الرحمن بن حبيب يسعى هو الآخر للقضاء على عبد الرحمن بن معاوية حين علم بأمره، فحين قدم عبد الرحمن بن معاوية إلى القيروان اجتمع عليه الخوارج وكادوا أن يقتلوه، فسافر إلى برقة ومكث فيها أربع سنوات حتى سنة 136 هـ وكان قد بلغ من العمر ثلاث وعشرين سنة كوّن عبدالرحمن بن معاوية فيها الحلفاء والأنصار وانضم اليه الكثيرون.
أصبح لعبد الرحمن بن معاوية الكثير من الحلفاء ومحبي الأمويين وانضم إليه من الشام ومن الوجهاء والقادة ورجال الدولة من كل مكان، وكانت لفطنة وذكاء عبد الرحمن وخاصةً أنه سليل الأسرة الأموية العريقة الفضل في هذا الحشد الكبير حوله ، فكانت الأندلس بعد ذلك وجهته وإعادة الحكم للبيت الأموي والمجد للأمويين، وكان الوضع في الأندلس ملتهب حيث انقسمت الأندلس إلى فرق عديدة متناحرة، وثورات لا نهائية، كلٌّ يريد التملك والتقسيم وفق عنصره وقبيلته ، وكانت شهرة وقوة عبد الرحمن بن معاوية وبالتعاون مع مؤيديه وإصراره وعزمه على استعادة مجد الأمويين هي المفتاح لدخول عبد الرحمن إلى الأندلس.
الطريق إلى الأندلس:
وصل عبد الرحمن الداخل إلى أفريقيا بعد عناء شديد، وما لبث أن لحق به مولاه بدر الرومي ومولاه سالم ، ومعهما كثير من أمواله التي تركها هناك.
ولم تكن الأمور في أفريقيا بأقل سوءًا مما تركها في المشرق، فقد صار “عبد الرحمن بن حبيب الفهري” –والي إفريقية- يسوم الأمويين الفارين إلى بلاده قتلاً وذبحًا ، يستحل دماءهم وينهب أموالهم، بعد أن كان حليفًا لهم بالأمس القريب.
ونزل عبد الرحمن الداخل على أخواله بني نقرة الأمازيغيين وعندما علم “عبد الرحمن بن حبيب ذلك أخذ يتحين الفرصة لقتله ، ويحتال لاستدراجه ، كما فعل بغيره من أبناء عمومته.
وأدرك عبد الرحمن ما يدبره له ؛ فخرج إلى مكناسة ، ونزل على قوم من قبيلة زناتة الأمازيغية ؛ فأحسنوا استقباله وناصروه ، ولكن عبد الرحمن بن حبيب لم يكف عن طلبه وتتبعه ، فهرب إلى برقة ، وظل متخفيًا بها مدة طويلة ، استطاع خلالها الاتصال بعدد كبير من قبائل الأمازيغ ، واستجار ببني رستم ملوك تيهرت، وراح يجمع حوله أشتات الأمويين الذين فروا من اضطهاد العباسيين ، وأمراء البيت المرواني الذين نجوا من الذبح.
وكان “عبد الرحمن الداخل” طوال تلك المدة يراقب الأمور من حوله بوعي وحذر ، ويدرس أحوال الأندلس بعناية ليتحين الفرصة المناسبة للعبور إليها.
واستطاع عبد الرحمن بمساعدة مولاه بدراً الاتصال بعدد كبير من الموالين للأسرة المروانية وأنصار الأمويين في الأندلس ، وراح يوثق علاقاته بكل خصوم العباسيين في تلك البلاد ؛ فالتف حوله عدد كبير من المؤيدين ، واستطاع كسب المزيد من الأنصار خاصة من جماعات الأمازيغ، الذين وجدوا فيه الأمل لاستعادة نفوذهم، وعقدوا عليه الرجاء في التخلص من الأوضاع المتردية التي صاروا إليها.
وتجمع حول عبد الرحمن الداخل أكثر من ثلاثة آلاف فارس ، كلهم يدين له بالولاء ، ويوطن نفسه على أن يقتل دونه.
وتقدم عبد الرحمن نحو قرطبة حاضرة الأندلس وعاصمتها ، واستعد له واليها يوسف بن عبد الرحمن الفهري، فيمن تمكن من حشده من قوات.
وكان يوسف الفهري كبير السن ضعيف البنية، فكان جل اعتماده على الصُّمَيل الذي قرر أن يستعين بأهل السوق للاشتراك في القتال ، فخرجوا يحملون العصي والسيوف، وخرج الجزارون بسكاكينهم وأرباب الحرف بآلاتهم.
وأصبح الصُّمَيل هو القائد الأعلى لقوات يوسف الفهري وموضع ثقته ، ومحل مشورته.
وسعي الصُّمَيل إلى المكر والخداع، ورأى في صغر سن عبد الرحمن الداخل وقرب عهده بزوال ملك آبائه ما يغريه بالرضا بالأمان والقناعة بالنعمة ورغد العيش بدلاً من حياة الأخطار والصعاب التي يواجهها ، فأشار على يوسف الفهري أن يغري عبد الرحمن بالزواج من ابنته ويجعله واحدًا من قواده ليأمن جانبه ويتقي خطره ، ولكن فشلت تلك الحيلة ، ولم يعد هناك من سبيل غير الحرب.
الإستعداد للدخول:
بدأ عبد الرحمن بن معاوية يعدّ العدة لدخول الأندلس بعد ان كون جيشا قويا والتف حوله مؤيدوه ، فعمل على الآتي:
أولًا: أرسل مولاه بدر إلى الأندلس لدراسة الموقف، ومعرفة القوى المؤثرة في الحكم فيها والوضع في الداخل الاندلسي.
ثانيًا: راسل كل محبي الدولة الأموية في أرض الأندلس.
ثالثًا:راسل عبد الرحمن بن معاوية الأمازيغ في الأندلس ، وأعلمهم خطته ورحبوا بذلك لمعرفتهم بعدل الأمويين وإنصافهم لهم ، وكانوا في ذلك الوقت على خلاف شديدٍ جدًا مع يوسف بن عبد الرحمن الفهري ؛ لأنه فرّق بينهم وبين العرب في شمال افريقيا ، فهم يريدون أن يتخلّصوا من حكم يوسف بن عبد الرحمن الفهري الذي عاملهم بهذه العنصرية.
رابعًا: راسل كل الأمويين في كل الأماكن وأنه يعزم على دخول الأندلس وإقامة الدولة الأموية فالتحق به كافة الأمويين من الشام وغيرها من البلاد .
وفي ربيع الثاني سنة 138هـ عبر عبد الرحمن بن معاوية بجيشه القوي ومن معه من القادة مضيق جبل طارق إلى داخل الاندلس بهيبة وعظمة الفاتحين المنتصرين وانضم إليه أنصاره وأخضع كافة البلاد في طريقه وزحف إلى إشبيلية واستولى عليها وبايعه اهلها ، ثم نجح في دخول قرطبة العاصمة ، بعد أن هزم جيش يوسف بن عبد الرحمن الفهري في موقعة المصارة في العاشر من ذي الحجة سنة138هـ ليسيطر على كافة ارجاء الأندلس.
ميلاد الدولة:
ودخل عبد الرحمن قرطبة فصلّى بالناس، وخطب فيهم ، فكان ذلك بمثابة إعلان ميلاد الدولة الأموية في الأندلس، وبويع له بالخلافة في 10 من ذي الحجة 138هـ ، ليصبح أول أموي يدخل الأندلس حاكمًا ، ويطلق عليه ذلك اللقب الذي عُرف به “عبد الرحمن الداخل” ، ومؤسس تلك الدولة الفتية التي أصبحت حضارتها منبعًا لحضارة أوروبا الحديثة ، وظلت منارًا للعلم والتمدن عبر قرون طويلة من الزمان ، في الوقت الذي غرقت فيه أوروبا في ظلمات الجهل والتخلف.
وقد رفض لقب الخلافة واكتفى فقط بلقب الإمارة حتى لا يكون للمسلمين خليفتان واضعان لبذور الفتنة.
مسجد قرطبة الجامعوكان يرى أن الخليفة هو من يحكم قبضته على الحرمين الشريفين، فبذلك منع الجدال وخطب له أميراً على الأندلس.
ومكث 33 سنة كحاكم على الأندلس إلى أن مات عن عمر يناهز 58 عاماً، تاركاً ورائه دولة كبيرة وقوية ذات جيش شديد القوة والبأس، وبلاداً عامرة بالحضارة والعلم، مما مثل حملاً ثقيلاً على خلفائه.
كتب: مصطفى خالد