في كل وقت وفي كل زمان يظهر حاكم قوي يعيد الإستقرار بعد أن تمتلئ الأرض بالفوضى والإضطرابات، فكما ظهر من الدولة الأموية الحجاج بن يوسف الثقفي، الذي استطاع أن يقضي على فتنة الخوارج في العراق، وثورة عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما في الحجاز. ومن تاريخ دولة بني العباس مولاها أبا مسلم الخراساني، الذي استطاع أن يكون هو حجر الأساس في إقامة الدولة العباسية بعد أن أخذ الأمر من إمام الدعوة العباسية إبراهيم بن محمد الإمام بالبدء في الثورة في خراسان ليأخذ على عاتقه مسؤولية نجاح الثورة أو من عدمه، فنجح وسيطر على خراسان ومهد بذلك السيطرة على العراق والمبايعة لأبي العباس عبد الله بن محمد السفاح بالخلافة.
وقد تناول “آدم” سيرة هؤلاء السالف ذكرهم، أما اليوم سوف يقص سيرة بدر الدين الجمالي الذي عاش في إحدى أصعب الفترات في الخلافة الفاطمية في مصر ألا وهي الشدة المستنصرية.
من هو:
بدر الدين الجمالي هو السيد الأجل أمير الجيوش سيف الإسلام ناصر الإمام كافل قضاة المسلمين وهادي دعاة المؤمنين أبو النجم بدر المستنصري وزير الخليفة الفاطمي المستنصر بالله ومجدد القاهرة الفاطمية. كان مملوكاً أرمني الأصل لأمير شامي يدعى جمال الدولة بن عمار، ثم أخذ يترقي في المناصب لما أظهره من كفاءة في الحروب التي قامت ببلاد الشام، حتى ولي إمارة دمشق من قبل الخليفة أبو تميم معد بن علي المستنصر بالله سنة 456هـ، وحارب الأتراك في تلك البلاد ثم تقلد نيابة عكا سنة 460ه.
- إقرأ أيضاً:الحجاج بن يوسف .. الفاتح المستبد
الشدة المستنصرية:
بدأت هذه الأزمة الكبرى ببعض الإضطرابات السياسية والتي ترجع أسبابها إلى بداية حكم الخليفة المستنصر بالله، فعندما بويع بالخلافة كان ما زال طفلاً إبن 7 سنوات، وكانت أمه وصية على عرشه، فتجبرت وكانت تعين وزراء الدولة حسب أهوائها وميولها الشخصية، فكان يتم تغيير وزير الدولة كل عام وكل شهر وكل يوم، مما قلص عدد رجال الدولة وقويت شوكة الجيوش في عالم السياسة وضاعت هيبة الخليفة.
ولم تقف الأمور على هذا الشكل بل تطورت أكثر حيث أن الجند السودانيون باتوا يثيرون الاضطرابات في الوجه القبلي، ونحوًا من أربعين ألف فارس من قبيلة لواتة والأعراب، تحت زعامة ناصر الدولة الحسين بن حمدان التغلبي (المتمرد على الخلافة الفاطمية)، يغيرون على الوجه البحري وينهبون بلاده ويحطمون الجسور والقنوات، مما ترتب عليه انقطاع المئونة عن القاهرة والفسطاط. وفى سنة 462هـ بعث ناصر الدولة إلى ألب أرسلان سلطان السلاجقة بالعراق رسولًا من قبله يسأله أن يرسل إليه عسكرًا ليقيم الدعوة العباسية بمصر على أن تؤول إليه السيادة على مصر، فرحب أرسلان بذلك، ولكنه انشغل بمحاربة الروم عن مصر.
وفى سنة 464هـ قطع ابن حمدان اسم المستنصر من الخطبة في الوجه البحري، وبعث إلى الخليفة القائم بأمر الله العباسي ببغداد يلتمس الخلع، ثم قدم إلى الفسطاط وتولي الحكم في القاهرة، وأطلق للخليفة مائة دينار كل شهر وخشي الأتراك على أنفسهم من جراء استبداد ناصر الدولة بالأمور في القاهرة، فدبروا لقتله فقتل وتتبعوا كل أفراد أسرته بمصر وتخلصوا منهم، ثم تسلطت الأتراك، واستبدوا بالأمور دون المستنصر سنة 466هـ.
وذهبت الأمور بعيداً حيث شاءت الأقدار أن لا تقتصر معاناة البلاد على اختلال الإدارة والفوضى السياسية، فجاء نقصان منسوب مياه النيل ليضيف إلى البلاد أزمة عاتية. وتكرر هذا النقصان ليصيب البلاد بكارثة كبرى ومجاعة عظيمة امتدت لسبع سنوات متصلة (457هـ – 464هـ / 1065م – 1071م)، وسببها ضعف الخلافة واختلال أحوال المملكة واستيلاء الأمراء على الدولة، واتصال الفتن بين العربان وقصور النيل، فزاد الغلاء وأعقبه الوباء، حتى تعطلت الأرض عن الزراعة، شمل الخوف وخيفت السبل برًا وبحرًا.
وقد تخلل تلك المجاعة أعمال السلب والنهب وعمت الفوضى، واشتدت تلك المجاعة حتى لم يجد فيها الناس شيئا يأكلوه فأكلوا الميتة والبغال والحمير، وبيع رغيف الخبز الواحد بخمسين دينارًا.
- إقرأ أيضاً: أبو مسلم الخراساني..سلم صعود الدولة العباسية
السلاح الأخير في يد الخليفة:
لم يكن أمام الخليفة المستنصر بالله للخروج من هذه الأزمة العاتية سوى الاستعانة بقوة عسكرية قادرة على فرض النظام، وإعادة الهدوء والاستقرار إلى الدولة التي مزقتها الفتن وثورات الجند، وإنهاء حالة الفوضى التي عمت البلاد، فاتصل ببدر الدين الجمالي واليه على عكا سنة 466هـ، وطلب منه القدوم لإصلاح حال البلاد، فأجابه إلى ذلك، واشترط عليه أن لا يأتي إلا ومعه رجاله، ومن يختاره من عسكر الشام، ليستعيض بهم عن الجند الأتراك والمغاربة والسودانيين الموجودين بمصر.
وما إن حل بدر الجمالي بمدينة القاهرة حتى تخلص من قادة الفتنة ودعاة الثورة، وبدأ في إعادة النظام إلى القاهرة وفرض الأمن والسكينة في ربوعها، وامتدت يده إلى بقية أقاليم مصر فأعاد إليها الهدوء والاستقرار، وضرب على يد العابثين والخارجين، وبسط نفوذ الخليفة في جميع أرجاء البلاد.
وفي الوقت نفسه عمل على تنظيم شئون الدولة وإنعاش اقتصادها، فشجع الفلاحين على الزراعة برفع جميع الأعباء المالية عنهم، وأصلح لهم الترع والجسور، وأدى انتظام النظام الزراعي إلى كثرة الحبوب، وتراجع الأسعار، وكان لاستتباب الأمن دور في تنشيط حركة التجارة في مصر، وتوافد التجار عليها من كل مكان.
واتجه بدر الجمالي إلى تعمير القاهرة وإصلاح ما تهدم منها، فأعاد بناء أسوار القاهرة وبنى بها ثلاثة أبواب تعد من أروع آثار الفاطميين الباقية إلى الآن وهي: باب الفتوح وباب النصر وباب زويلة، وشيد مساجد كثيرة فبنى في القاهرة مسجده المعروف بمسجد الجيوش على قمة جبل المقطم، وبنى جامع العطارين بالإسكندرية.
ولم يكن للوزير بدر الجمالي أن يقوم بهذه الإصلاحات المالية والإدارية دون أن يكون مطلق اليد، مفوضا من الخليفة المستنصر، وقد استبد بدر الجمالي بالأمر دون الخليفة، وأصبحت الأمور كلها في قبضة الوزير القوي، الذي بدأ عصرا جديدا في تاريخ الدولة الفاطمية في مصر، تحكم فيه الوزراء أرباب السيوف.
واستطاع الجمالي أن يعيد نفوذ الخليفة على جميع بلاد الوجه القبلي حتى أسوان، وكذلك الوجه البحري، وبني جامع العطارين وأعاد الرخاء فزاد خراج مصر في سنة (457 –464) من 2.000.000 دينار إلى 3.100.000 دينار، وتوفي الجمالي سنة 487هـ وعهد لابنه الأفضل شاهنشاه.
كتب: مصطفى خالد