images 9 1

كعادتها دلفت معبدها الصباحي تتلو ترانيمها على هدير موقد الكيروسين النحاسي ولهيب شعلته الزرقاء الصافي صفاء قلبها الكبير، رغم تبرمها الوهمي من تتبعي لخطاها؛ كان تمسحي بأطراف ثوبها المرقع كقط يلعق كف صاحبه مصدر بهجتها الأبدية، زجرها الدائم أنشودة يومية حين تعزفها؛ يتراقص فؤادي، تسكن روحي ؛ تنشرح أساريري، ضفائر شعرها المجعد حبال آمالي الضئيلة، تضحك فتزيل غبار الحزن الجاثم على أركان غرفتنا المتواضعة منذ رحيل ربُّ الدار، رفيق عمرها ، أبو وليدها الذي لم يحظَ بلحظة تسعده بعد أن غدره الموت حين سكن أحشاءها.

-بعد تناول إفطارك انهض سريعا كي أوصلك إلى دار التحفيظ بالمسجد؛ بوزي الممدود وجبيني المقضَّب يسفران عن رفضي الخجول، بسمة وجهها تكشف عن عزمها الوفاء بعهد رفيقها المغدور.
-يا وردة؛ أحشاؤك تحمل هبة الرحمن، عهد علينا أن يحفظ كتاب المولى.. ظلت تردد عبارته وهي تجرر خطواتي العثرة في طريقها نحو الكتَّاب؛ ما زلت في الرابعة، تضعني برفق في كف الرحمن، تتلقفني يد سيدنا بحنان، تعدو بهمة نحو فرشتها العامرة باللون الأخضر في السوق، ملفوف، زهرة، خس، جرحير، والحصيلة قروش، رضا ونفس مطمئنة؛ تعود بها فَرِحة وقد ازدانت عيناها التي امتزج خضارها بخضارها الطازج بكنزها الذي يشبُّ يوما بعد يوم، عبد الرحمن بلغ اليوم السادسة.

-المدرسة ..كيف .. نعم؛ المدرسة؛ من أين؟ ولكن.
-لكن؛ ماذا يا أم عبد الرحمن؟ الولد ربنا يحرسه، اسم الله عليه. رددتها وهي تناول شيخ الكتاب حزمات من قوتها الأخضر عرفانا وامتنانا بجميل صنيعه.
-ذهنك شارد؛ ماذا أصابك؟
-المدرسة؛ عبدالرحمن ..فقرنا ..أبوه افترسه العوز والمرض.. لم ينعم بصرخته أو بسمته، متى يتوقف عرض مسلسل قسوة الأيام؟
-ملف المدرسة، مصروفاته الدراسية، ثيابه السنوية ..لا تحملي هما.. كلمات الشيخ نزلت عليها بردا وسلاما ..الكابوس الجاثم على صدرها بدأ يجرجر أذياله، لهج لسانها بدعوات كالشلال المتدفق.

أفرغتُ حقيبة مدرستي ومعدتي الخاوية في حضنها الدافئ فأكبت عليَّ تشمُّ أوصالي تبعث فيها توردا فأبدو كديك مغرور ينهم واجباته حتى يؤذن لصلاة الفجر، ضحكت كمراهقة حالمة بفارسها المغوار ويدها الممدودة بنصف رغيف ينعكس عليه بهاء وجهها فيسد سغب نهاري ويروي ظمأ ليلي، همست في أذنيها؛ ألن تكفي عن فرش خضارك؟ أسرع كفها الحاني يسجن كلماتي بحسم؛ حين ترتدي معطفك الأبيض.

آه ..معطفي الأبيض .. لم يقوَ العوز على افتراس أحلامها أو محو سطور ذكرياتها، صورة أبي المغدور مثبتة بحبل بالٍ على جدار متشقق؛ لكنّ وردته حرصت كل شروق على أن تمسح دمعته بزيّ المدرسة الذي حاكته بأنامل عاشق متلهف، يكسو قسمات وجهها بهاء يغمرني بنشاط دافق لا تخبو شمعته، ولا تهمد همته، بل كان ينير دروبا أطبق عليها ظلام دامس؛ فتشرق شموسي مع كل بطاقة درجات، تتلقفها بزهو بين بسطاء السوق معلنة أنها ذات يوم سوف تنعم بلقب أم الدكتور .. أم الدكتور…أم الدكتور وفي الثالثة أفوز بضمة تضمد ندبات الدهر الغائرة فيفوح مني رائحة النعنع الذكية حين ألتصق بجسد أمي.

مع إشراقة الصباح عبّق عطرها نفسي رضا شحذ همتي، توددت إليها بكوب من شاي النعناع الساخن وحبات فلافل كالجمر، ما رأيك؟ أقصد يعني لو ..ألا يكفيك ما مضى .. قدمت الكثير .. شبّ عودي .. اشتد ساعدي أقوى على العمل مع الدراسة.. امتقع وجهها و فزّ قلبها كأنما لسعة عقرب سرى سمها في جنبها .. تعمل! .. تعمل ماذا؟! ..وكلية الطب .. هذا عامك الأول ، أيحلو لك أن تسلبني أحلامي؟ نعم نحن في مسيس الحاجة لقطعة لحم و رغيف خبز وجدران مصبوغة .. لكن كل هذا وأكثر سيصبح رهن إشارتك، كانت المرة الأخيرة التي علت فيها رنة الغضب حديثها.. رضختُ للأمر.. طويت الصفحة إلى غير رجعة.

صادفني شيخ الكتّاب، خطواته الزاحفة نحو المسجد تتلاحق بمشقة بالغة، استند إلى كتفي، عجز عن منع شفتيّ من التسبيح بتجاعيد كفه المبارك، حفظك الله طبيب غدنا المأمول، وكم بقي على تخرجك؛ عامان .. إيه فات الكثير ..سطور قليلة في صفحات عامرة بالكفاح، لن يسعد مخلوق بمعطفك قدر سعادة بائعة النعناع.. آه.. بائعة النعناع .. وردة عمري ..لأجلها تهون الصعاب، ثيابي البسيطة وضيق ذات يدي ملحمة سطرتها كفاها، معزوفة عشق سكبتها أناملها فغدت أعذب أنشودة.

-ولكن؛ كيف وردتك الآن؟ مضى شهران؛ فرشتها نسج عليها العنكبوت.
-الحمد لله؛ مازالت تعاني، نشب المرض أظافره في جسدها النحيل؛ لا تحرمها من دعائك.

مضت الأعوام كسلحفاة تثاقلت خطاها حين تسابق أرنبا أشد كسلا، في حفل بهيج ؛ أحكمت قبضة يدي على شهادة تخرجي بامتياز، تهافت الحشد على تهنئتي، هالة بشرية من أهل السوق غمروني بحب وإحسان، انسل جسدي خفية من الجمع الغفير، خطواتي تسابق الزمن، تعثرت قدماي ، أُقدّمُ رِجلا وأؤخر أخرى نحو معبد وردة العتيق؛ ها أنذا .. صغيرك بين يديك يحمل لك البشرى .. الكل عانقني.. فتح ذراعيه .. اشرأبت عنقه نحو الجدار.. تسمّر، طال انتظاره، غطت غيمة سوداء عينيه، تساقطت حبات اللؤلؤ على خديه، انتظر بلهفة ذراعي وردته، حال بينهما إطار جاورت فيه إطار أبيه.

بقلم/ هشام أحمد