الأسواق دائمًا على حق، تعدل من نفسها، لها قوانينها التي تؤمن لها الاستمرارية، منها قوانين العرض والطلب والتنافسية بين مكونات السوق، وتعد المنافسة هي المحرك الأساسي للأسواق بل يمكن أن نقول أنها محرك الحياة منذ الخليقة، فلولا التنافس على طاعة الله بين سيدنا آدم عليه السلام والشيطان وهو الاختبار الذي رسب كلاهما فيه وتم إرسالهما إلى الأرض ليكملا ما بدأوه في الجنة من منافسة على طاعة الله، وكل منهما يريد أن ينتصر هو وذريته ويخسر الطرف الآخر وذريته.

ثم تحولت المنافسة بين أبناء آدم أنفسهم، من الأقوى؟، من الأذكى؟، من الأكثر مالًا وولدًا وسلطة؟، من الأكثر نفوذًا؟، من له ملك مصر وتجرى من تحته الأنهار؟، ومن يمتلك خزائن الأرض والتي يعجز عن حملها عصبة من الرجال الأداء؟

ولأن قوانين السوق ثابتة في الأغلب الأعم؛ إلا في حالات الحروب والمجاعة والقحط والجفاف والكوارث الطبيعية، فعندما تتعرض الأمم للنكبات فلا مال لأحد ولا لاحتكار السلع والخدمات فحياة الشعوب أغلى وأهم من كل القوانين الاقتصادية والأموال العينية أو النقدية، فالأهم هو عبور المحنة والأزمة وأن يحيا الشعب والسوق ليطبق قوانينه عندما تنقشع الغمة والمحنة، وظلت هذه القوانين سارية.

اقرأ أيضًا: كيف تعامل الفراعنة مع أزماتهم الاقتصادية؟

المنافسة الاقتصادية في عهد محمد علي:

في تاريخنا الحديث كان أول من كسر قواعد المنافسة والأصول الاقتصادية، هو نفسه صانع الملكية المصرية الحديثة محمد علي باشا، فبعد أن استبد بالنظام السياسي المصري ونفى السيد عمر مكرم رئيس الجبهة الشعبية، التي مهدت الطريق وأزالت كل الصعاب والمكائد والمحن من طريق قائد فرقة البانية من فرق الجيش العثماني؛ ليتولى عرش مصر المحروسة ووقفت تلك القوى الوطنية كالجبل الشامخ والصخرة العنيدة أمام الباب العالي في اسطنبول بتركيا، وأمام الإنجليز في رشيد؛ من أجل تمكين محمد علي باشا من حكم مصر، وكان جزاء سنمار هو الجزاء المحتوم لتلك القوى الوطنية.

ثم جاء الدور على القوى العسكرية الموجودة في مصر منذ سبعة قرون مضت، ألا وهم فرق المماليك ذوو التاريخ العجيب من الفروسية والخيانة ومن الإقدام والانتصار والسيادة، وأيضًا من الخذلان والهزيمة والتبعية، كان محمد علي يريد أن يستولي على جميع مفاتيح السلطة، ويحتكر جميع القرارات السياسية منها والعسكرية والاقتصادية، وبعد مذبحة القلعة الشهيرة لم يعد هناك منافس لمحمد علي في مصر، وخضعت الأسواق لإرادة محمد علي ذابح المماليك، وأصبح محمد علي هو الحاكم الوحيد والسياسي الوحيد والتاجر الوحيد والمزارع الوحيد، أصبح يدير البلاد كما يدير الإنسان مزرعته الخاصة، والجميع عبيد إحسان مالك المزرعة إن شاء أطعمهم وإن شاء أماتهم.

المنافسة الاقتصادية في عهد محمد علي

المنافسة الاقتصادية في عهد محمد علي

لكن العجيب وطبعًا مصر هي بلد العجائب الحقيقية، نجح محمد علي في مسعاه وبنى بلدًا جديدة بقواعده الخاصة؛ فجعل اقتصاد البلاد يتمحور على عمود فقري هو جيش محمد على الذى تحول إلى الجيش المصري مع الزمن (فكما قلت مصر بلد العجائب وأنت تلقي بالبذرة لا تلقي لها بالًا؛ فتجدها أصبحت مع الزمن شجرة كبيرة وافرة الظلال والثمار)، فكل إمكانيات الدولة المصرية أصبحت تخدم الجيش المصري، التعليم التصنيع، التعدين، الزراعة، وتحولت جموع الشعب المصري إلى موظفين ومستأجرين في أرضهم وبلادهم.

اقرأ أيضًا: إفلاس ألمانيا.. أبرز المشاكل التي تهدد الاقتصاد الألماني 2022

ونجح النظام الجديد من تحقيق انتصارات اقتصادية وسياسية وعسكرية، كادت من روعتها أن تسقط الخلافة العثمانية من عرشها، وكاد الجيش المصري أن يدخل اسطنبول؛ ليوسع ملكه لولا الدول الأوروبية التي أرادت الحفاظ على رجل أوروبا المريض، لكن أهم إنجازات محمد علي أنه أمن لنفسه ولأسرته من بعده حكم مصر.

المنافسة الاقتصادية في عهد المماليك:

بعد محمد علي وعباس الأول، خرجت قوانين السوق والمنافسة للظهور مرة أخرى، لكن هذه المرة كان المتنافسون هم الدول الأوروبية، وبيوت المال الأجنبية التي تريد جزءًا من الكعكة المصرية الشهية والثمينة، وبرغم مساوئ الأوروبيين للأمور الاقتصادية داخل المملكة المصرية، ومن أهمها استيلاؤهم على أسهم قناة السويس الثمينة ماليًا وسياسيًا، وأيضًا احتكارهم لطبع الجنية المصري واستبداله من الذهب إلى الورق في عملية نصب عالمية تحت اسم البنك الأهلي المصري لا يحمل من المصرية إلا الاسم فقط.

لكن دوام الحال في الأسواق من المحال، فقد تبدل ملوك وملاك الاقتصاد المصري من الأجانب إلى طبقة جديدة من الشباب المثقف المتعلم الوطني، الذى يريد أن يقود البلاد اقتصاديًا وسياسيًا بلا حرب، بل يريد أن يقودها بقوته الناعمة قوة العلم والفن والاقتصاد والسياسة، فظهر مصطفى كامل، وطلعت حرب، والنقراشي، وسعد زغلول، وأحمد عبود، ومختار في النحت، وسيد درويش في الغناء والتلحين، وغيرهم الكثير جدًا في شتى فروع المعرفة والفن والاقتصاد.

المنافسة الاقتصادية في عهد المماليك

المنافسة الاقتصادية في عهد المماليك

وقبل أن ينتصف القرن التاسع عشر كانت المملكة المصرية دولة ثابتة الأركان من الناحية الفنية والاقتصادية، والكثير من الطموح السياسي الذي لم يكن ليكتمل إلا بخروج المحتل الإنجليزي، لكن من حيث الأسواق والتنافس الاقتصادي؛ فإن مصر كانت تتفوق على معظم دول العالم ومنها الأوروبي بل إن مصر كانت تمنح المنح والعطايا ليس لشعوب الدول العربية والإفريقية فقط، بل كانت ترسل المنح لبعض الدول الأوروبية كبلجيكا ويتعلم في مدارسها ملوك أوروبا كإسبانيا واليونان، بل كانت الدولة المصرية دائنة لدولة الاحتلال الإنجليزي بعدة ملايين من الجنيهات المصرية، وكانت المنتجات المصرية تنافس وتغزو الدول الأوروبية، وتحقق مطالب المنافسة العالمية من جودة المنتجات وسعرها المناسب وتطورها التكنولوجي المناسب لتلك الفترة، وكانت مصر دائمًا تقارن نفسها بالدول التي تقود العالم كالولايات المتحدة وإنجلترا وفرنسا فقط.

اقرأ أيضًا: براعة الاقتصاد المصري في مواجهة أزمة كورونا

لكن كما قلت دوام الحال من المحال، وتغيرت الأمور السياسية وتحولت مصر من الملكية إلى الجمهورية، ولو أن الأمر توقف عند هذا الحد لكن خيرًا للجميع جمهورية دستورية بها رئيس له صلاحيات محددة، وبرلمان له صلاحيات محددة، ورئيس حكومة يأتي من المجلس؛ لينفذ تكليفات الحزب الفائز في الانتخابات وتراقب عناصر السلطة المصرية الرئاسية والبرلمانية والحكومة بعضها البعض لخدمة المواطنين، وترك الأسواق والأمور الاقتصادية لذوي الخبرة وللمنافسة الشريفة بين جموع أفراد المجتمع، لتنهض البلاد على أساس سليم علمي حديث.

لكننا جميعًا نعرف ما حدث، عادت الدولة لتكون هي الصانع والتاجر والمزارع الوحيد، وهو ما أدى إلى تراجع المنافسة وظهور العديد من المشكلات الاقتصادية، وعاد الجميع ليكونوا موظفين لدى الدولة، التي مع مرور الوقت فقدت السيطرة وظهرت أمراض كالفساد، والنفاق، وأكل العيش، والتبلد، والاتكال، وعدم الطموح والابتكار، ومات التنافس إلا في أمور النفاق وسرقة المال العام حتى رفعت الدولة يدها وقالت سنعود لقوانين السوق لكن كيف وكل قوانين الدولة هي قوانين اشتراكية تحارب ملكية الفرد، وتحاصره بعدد لا نهائي من الإجراءات والقوانين وتعديلاتها واللوائح والموظفين الفاسدين، أو الذين لا يريدون العمل خشية الأخطاء والجزاء وتحولت آلة الدولة إلى ماكينة حولها آلاف العمال، لكنها لا تنتج شيئًا والجميع يتهم الآخرين بأنهم السبب في خراب البلاد.

وبعد أن سرنا في طريق التخلص من هذا الروتين لمدة، عادنا مرة أخرى لسيرتنا الأولى لتكون الدولة هي الزارع والمصنع والتاجر الوحيد، لكن هذه المرة بجبال من الديون اثقلت كهل الحكومة المصرية؛ لتصرخ عاليًا وترفع الراية البيضاء وتقول سنعود لقوانين السوق ونبيع أصول الدولة التي أدخرنها عبر سنين طويلة لمن يحمل العملة الصعبة، وهكذا هو التاريخ المصري حلقات من المنافسة والتجربة والنجاح والفشل.

اقرأ أيضًا: تحالف البريكس يتوسع لتشمل مصر والسعودية والإمارات

كتب: أحمد عبد الواحد إبراهيم.