حكاية مكان عزيزي القارئ سلسلة مقالات سيتم نشرها إن شاء الله بصفة دورية، نتناول فيها في كل مرة حكاية مكان مميز تاريخيًا أو ثقافيًا أو اجتماعيًا أو شعبيًا ونستعرض فيه أهمية هذا المكان وقيمته وتاريخ نشأته، وتطوره عبر الزمن، ونرجو لهذه السلسلة أن تحوز على إعجابك عزيزي القارئ وتعطيك المعلومة والفائدة المرجوة، وحكاية مكان اليوم سنتناول فيها حكاية حي خان الخليلي.
ماذا تعرف عن حي خان الخليلي؟
حي خان الخليلي، هو أحد أحياء القاهرة القديمة، له شهرة سياحية كبيرة بالنسبة لزوار القاهرة ومصر بشكل عام، يتميز بوجود بازارات متعددة ومطاعم شعبية، كما يتميز بكثرة أعداد السياح واعتياد سكان الحي عليهم، خان الخليلي أيضًا كان مصدر إلهام للكثير من الكتاب والأدباء المصريين أبرزهم الكاتب نجيب محفوظ الذي كانت إحدى رواياته تدور أحداثها بالحي، وتحمل اسمه (خان الخليلي)، والتي تحولت بعد ذلك إلى فيلم سينمائي قام ببطولته الفنان عماد حمدي.
اقرأ أيضًا: ساقية الصاوي.. حاضنة للإبداع الشبابي
تاريخ حي خان الخليلي:
يبلغ حي خان الخليلي العتيق من العمر حوالي 600 عامًا، وهو يُعتبر واحدًا من أقدم الأسواق في مصر المحروسة والشرق الأوسط، ولا يزال الحي مُحتفظًا بمعماره القديم مُنذُ ايام عصر المماليك، ولم يتأثر خان الخليلي بعوامل الزمن، بل ظل مصدر إلهام للأدباء والفنانين يساعد خيالاتهم دائما على الإبداع، كما كتب نجيب محفوظ، روايته (خان الخليلي) من وحي أجواء هذا الحي القديم ووصفه بالحي التراثي، وأعجبه كثرة الدكاكين، فهذا دكان ساعاتي، ودكان خطاط، وآخر للشاي، وواحد للسجاد، وخامس للتُحف وهكذا، وأدهشته المقاهي أيضًا التي لا يزيد حجم الواحدة منها عن حجم الحانوت (الدُكان) الصغير، وقد جلس الصناع أمام الدكاكين يعملون على فنونهم في صبر.
والجدير بالذكر إن الخان هو مبنى على شكل مربع كبير محاط بفناء يشبه الوكالة، بينما في وسطه توجد المحلات، أما الطبقات العليا منه فتوجد بها المخازن والمساكن، وترجع تسمية خان الخليلي إلى صاحب الأمر بإنشائه في عام 784هجريًا، أي عام 1382 ميلاديًا، وهو الأمير جهاركس الخليلي، أحد أمراء المماليك من مدينة الخليل الفلسطينية، وتقول القصص التاريخية إنه بعد مقتل الخليلي في دمشق، هدم السلطان المملوكي قنصوه الغوري الخان، وأنشأ مكانه وكالات ودكاكين للتجار، فأصبح للمكان طابع تاريخي مميز بآثار المماليك.
وكما يقول المثل الشعبي: “الرجل تدب مكان ما تحب”، فإن أول دبة على أرض الخان يجب أن تكون في مقهى الفيشاوي، الذي يزيد عمره عن مائتي عام، وهو من أقدم مقاهي مدينة القاهرة، حيث كان الكاتب الكبير نجيب محفوظ من أشهر رواده في فترة الستينات من القرن الماضي.
اقرأ أيضًا: حكاية مكان.. شارع المعز رمز ثقافي وحضاري لمصر
ماذا تعرف عن قهوة الفيشاوي؟
قهوة الفيشاوي تستحق أن يفرد لها مقال خاص بها لقيمتها التراثية الأدبية، مقهى الفيشاوي يتصدر الخان، وتستطيع أن تحتسي هناك الشاي الأخضر، وتتحدث في أي شيء كيفما تشاء ، قبل أن تبدأ الجولة الرائعة في الحي العتيق. ولن تجد أمتع أجمل من التجوال سيراً على الأقدام داخل أزقة وحواري الخان، ولن تحتاج إلى عبقرية لفك ألغازها، ولا إلى حاسة سادسة لمعرفة طلاسمها، فالأزقة هناك متراصة كحبات عقد ومتداخلة كقوس قزح المتعدد الألوان، وما زالت الفلسفة المعمارية التي بني على أساسها خان الخليلي مجهولة حتي الآن، فبلاط الأرض عبارة عن حجر بازلتي أسود لامع، والسوق مسقوف بخشب يتحدى الزمن وعوامل التعرية، والشمس تتسلل إلى داخل حوانيت كثيرة، تكون مع بعضها سراديب مملوءة بالكنوز والتحف النادرة المصنوعة بمهارة ودقة فائقة.
جولة داخل حي خان الخليلي:
عندما تبدأ الرحلة في الخان، فلا بد وأن تلقي نظرة أولًا على ما تبقى من مشربيات تطل على الشارع أو الحارة، والأسبلة الجميلة المشغولة واجهاتها بالنحاس، وأحواض الماء داخلها التي كانت تروي العطشان وعابر السبيل في قديم الزمان، ويحتاج زائر الحي إلى رؤية وقدرة خاصة ليستطيع المرور داخل الأزقة الضيقة وسط زحام كبير من البشر، وزحام المقاعد الخشبية أيضًا التي قام أصحاب المقاهي بوضعها لجذب الزبائن، وبمجرد دخولك الشارع تبدأ في سماع عبارات الترحيب المصرية خفيفة الظل، وكلمات ترحيب أولاد البلد التي تدعو الزائرات والزائرين للفرجة وهم يرددون: “اللي ما يشتري يتفرج”.
وعند دخولك أحد الحوانيت أو الدكاكين، فإن البائع يستقبلك مبتسمًا بعبارة “مصر نورت”، فيرد الزائر الخبير بعالم القاهرة السحري ومفرداتها اللغوية قائلًا: “مصر منورة بأهلها”، ويبدأ التاجر في عرض ما لديه من بضاعة، لا تفارقه الابتسامة وكلمات الإشادة بجودة بضاعته، وأنها صنعت خصيصًا لعشاق مصر والفن اليدوي المصري، ويعتبر تجار الخان من الخبراء في فن البيع والمساومة والاقناع، وهي صفات ورثوها عن الأجداد.
اقرأ أيضًا: شارع الموسكي .. تاريخ أكبر سوق شعبي في مصر
العطور والبخور في خان الخليلي:
وأثناء جولتك في حي خان الخليلي، ستشم في الفضاء روائح جميلة في اتجاه شارع الموسكي، حيث تكثر تجارة العطور العربية والآسيوية والأوروبية، هنا مثلًا عطر الملك، والعنبر، والياسمين والفل، مئات من الروائح وربما الآن تباع في زجاجات ذات أشكال وألوان مختلفة تحتوى عطورًا غير مألوفة للبعض، ألوانها متعددة ما بين الزيتي في لون البترول الخام، والأصفر الذهبي، والبنفسجي الممزوج بالعنبر، ويعرف كل تاجر أصول العطر الذي يبيعه، ومن أين يستخرج، وكيف يصنع، أما البخور فله مكانة خاصة في الخان، ومعتقدات الناس مع البخور غريبة، فهناك من يعتقد أن دخان المستكة يمنع العين والحسد، أما الكسبرة فهي زعيمة البخور ويطلق عليها اسم (الفك والفكوك)، لأنهم يعتقدون أن من يشمها تذهب عنه العقد والأسحار.
وفي خان الخليلي بضائع متنوعة من كل صنف ولون، تبدأ من الذهب والماس والفضة إلى أوراق البردي المكتوب عليها كلمات باللغة الهيروغليفية القديمة، وتمائم وأيقونات وقصائد غزلية قديمة ونقوشات مزخرفة باللون الأزرق تحكي ملخصًا لأجمل حكاية عشق في التاريخ (حكاية إيزيس وأوزوريس) التي يحبها السائحون الأجانب ويقبلون عليها.
ختامًا عزيزي القارئ، إن حي خان الخليلي يبقى شاهدًا حيًا على تاريخ القاهرة، وهو مكان يجمع بين التراث والتجارة والثقافة، واكتشافه يمنحك نافذة إلى عالم مصري فريد من نوعه.
اقرأ أيضًا: حكاية مكان.. تحول بولاق أبو العلا من ميناء إلى وكالة البلح
كتبت: سحر علي.