قف للحظة وتخيل العصر الحديث، حيث يظهر شخصية استثنائية تتألق ببراعة وشجاعة في وجه التحديات، إنه السلطان عبد الحميد الثاني، الذي عاش في فترة تاريخية حرجة مليئة بالصراعات والأطماع الأوروبية، ولا يمكن نسيان دوره في التصدي لجهود الصهيونية المتصاعدة لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.
لقد أصبح السلطان عبد الحميد الثاني ليس فقط حاكمًا، بل رمزًا للصمود والحكمة في وجه العواصف والمحن، فلنقف ولنتأمل في إرثه الذي يتجاوز الزمان والمكان، فهو مثال حي للرؤية والقوة في مواجهة الصعاب.
من هو السلطان عبد الحميد الثاني؟
السلطان عبد الحميد الثاني هو السلطان الرابع والثلاثون من سلاطين الدولة العثمانية وآخر من امتلك سلطة فعلية منهم، تولى الحكم في (31 أغسطس 1876م) وخلع بانقلاب في (27 أبريل 1909م)، فوضع رهن الإقامة الجبرية حتى وفاته في (10 فبراير 1918م)، أطلقت عليه عدة ألقاب منها (السلطان المظلوم).
اتصف السلطان عبد الحميد الثاني بصفات قيادية فذة أهلته لأن يجعل من قضية الإسلام همه الأول، ومن إنقاذ الدولة العثمانية في عهدها الأخير من الأعداء في الخارج، ومن المتغربين في الداخل شغله الشاغل، وكان هذا سر الحملة الظاهرة التي شنها الأعداء لتشويه صورته وتدمير قيادته التي كانت بمثابة خلافة المسلمين.
فقد استطاع هذا الرجل أن يؤخر سقوط الدولة العثمانية ربع قرن في وقت كان سقوطها أمنية عالمية بدءًا باليهود والأقليات الحاقدة الذين تغلغلوا في جسد الدولة العثمانية وأصابت منها مقتلًا.
اليهود في الدولة العثمانية:
كانت الأطماع الأوروبية على أشدها بالإضافة إلى الأطماع اليهودية في فلسطين، وكان على السلطان عبد الحميد الثاني مواجهة تلك الأطماع التي تهدف إلى القضاء على الخلافة العثمانية وتمزيقها والسيطرة عليها عسكريًا واقتصاديًا، والعمل على إقامة دولة يهودية على أراضي فلسطين، لقد تمتع اليهود في فلسطين التي كانت خاضعة للحكم العثماني بقسط وافر من الحرية الدينية لم تكن من نصيبهم في أي بلد أوروبي.
ففي خلال الحكم العثماني لم تتخذ أي إجراءات رسمية تستحق الذكر تناهض اليهود أو تميز بينهم وبين السكان، بعكس ما ذاقوه من ألوان العذاب في معظم الدول الأوربية، إن اليهود تمتعوا بكل الامتيازات والحصانات بموجب قوانين رعايا الدولة ووجدوا السلم والأمان وحرية الوجود الكامل في الدولة العثمانية.
استغل اليهود عطف الدولة العثمانية عليهم فانتهزوا الأوضاع التي كانت تمر بها الدولة العثمانية للضغط على السلطان عبد الحميد لإقامة وطن قومي لهم في فلسطين.
اقرأ أيضًا: ذكرى وفاة السلطان سليمان القانوني.. أعظم سلاطين الدولة العثمانية
وقوف السلطان عبد الحميد الثاني في وجه أطماع اليهود:
يعتبر وقوف السلطان عبد الحميد الثاني في وجه أطماع اليهود في فلسطين هو أشهر مواقفه على الإطلاق، ويزيد من قيمة هذا الموقف حدوثه في هذه الحقبة التاريخية التي شهدت ضعفًا عثمانيًا ظاهرًا واحتياجًا شديدًا للدعم المالي والسياسي.
وبرغم ذلك وقف السلطان عبد الحميد الثاني ضد هذه الهجرات اليهودية بالمرصاد وحاول منعها بكل ما أوتي من قوة، وكان قرارًا جريئًا منه في فترة كانت الدولة العثمانية يطلق عليها رجل أوروبا المريض، ورغم ذلك رفض كل الضغوط الدولية والاغراءات اليهودية للسماح لهم بالهجرة إلى فلسطين.
الجهود اليهودية لإقامة وطن قومي لهم:
اجتهد اليهود في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في تجميع أنفسهم من الشتات العالمي بغية إقامة وطن قومي لهم، وكانت أمام زعمائهم اختيارات كثيرة مع الخيار الأهم مطلقًا وهو فلسطين، كان البعد الديني لفلسطين مغريًا لليهود ليقدموها على غيرها بالإضافة إلى ضعف الدولة العثمانية وكثرة ديونها، وكل هذه العوامل تجعل فرصة التسلل إلى فلسطين التابعة لها أمرًا ممكنًا.
قام اليهود ببعض الهجرات إلى أرض فلسطين، واستطاعوا تنظيم بعض المستعمرات، حينئذ شعر السلطان عبد الحميد الثاني بهذا الخطر فأبلغ المبعوث اليهودي أن باستطاعة اليهود العيش بسلام في أية بقعة من أراضي الدولة العثمانية إلا فلسطين، وأرسل السلطان مذكرة إلى متصرف القدس يطلب منه أن يمنع اليهود الذين يحملون عددًا من الجنسيات المختلفة من الدخول إلى القدس.
اقرأ أيضًا: السلطان السابع الملك الصالح نجم الدين أيوب
هرتزل والوطن القومي لليهود:
أرسل (ثيودور هرتزل) الأب المؤسس لإسرائيل رسالة إلى السلطان عبد الحميد الثاني يعرض عليه قرضًا من اليهود في مقابل تشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين ومنح اليهود قطعة أرض يقيمون عليها حكمًا ذاتيًا، حاول اليهود إغراء السلطان بالموافقة على هجرتهم لفلسطين مقابل الدعم المالي للاقتصاد المنهار وسداد ديونها في مقابل السماح لهم بوطن في فلسطين تحت التبعية العثمانية، لكن السلطان رفض هذا العرض رغم احتياج الدولة العثمانية إلى الأموال.
هنا قال السلطان عبد الحميد الثاني كلمته الشهيرة التي أغلق بها باب الحديث مع هرتزل: (انصحوا الدكتور هرتزل بألا يتخذ خطوات جدية في هذا الموضوع، فإني لا استطيع أن أتخلى عن شبر واحد من الأرض، فهي ليست ملك يميني، بل ملك الأمة الإسلامية التي جاهدت في سبيلها وروتها بدمائها فليحتفظ اليهود بملايينهم، وإذا مزقت دولة الخلافة يومًا فإنهم يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن، أما وأنا حي فإن عمل المبضع في بدني لأهون علي من أن أرى فلسطين قد بترت من الدولة الإسلامية، وهذا أمر لا يكون إنني لا أستطيع الموافقة على تشريح أجسادنا ونحن على قيد الحياة).
كان هذا الموقف المشرف من السلطان عبد الحميد لا يختلف عليه أحد، ولكن في كل زمان لا بد أن يكون هناك معارضون، وهذا ما حدث مع السلطان عبد الحميد الثاني فقد تعرض لأكثر من محاولة اغتيال بسبب سياسته تجاه القضية الفلسطينية.
وفاة هرتزل دون تحقيق هدفه:
لم يتوقف ثيودور هرتزل عن الطموحات على الرغم من هذا الصد المستمر في (1902م)، طلب من السلطان عبد الحميد الثاني السماح بإنشاء جامعة عبرية في مدينة القدس، ولكن السلطان رفض، وفي (1903م) حاول اليهود عقد مؤتمرهم الدولي في فلسطين؛ فرفض السلطان أيضًا، في (1904م) توفي ثيودور هرتزل دون أن يحقق هدفه، لكنه كان وضع أقدام الصهاينة على الطريق وقد أدرك أتباعه أن تحقيق هدفهم في إقامة وطن في فلسطين مرهون بخلع السلطان عبد الحميد الثاني.
فكانت هذه خطتهم في المرحلة القادمة ورغم ذلك استطاع السلطان عبد الحميد الحفاظ على الدولة العثمانية فترة كبيرة من السقوط، كما أنه حافظ على الأراضي الفلسطينية بكل جهده من أن تقع في أيدي اليهود وكان من جراء سياسته هذه أن خسر عرشه.
اقرأ أيضًا: الخديوى إسماعيل … “رائد التجديد ومسبب الديون”
خلع السلطان عبد الحميد الثاني:
خلع السلطان عبد الحميد الثاني وأجبر على ترك الخلافة، هذه الرسالة من السلطان عبد الحميد الثاني إلى الشيخ الشاذلي محمود بن محيي الدين بن مصطفى أبو الشامات والتي نشرت في ديسمبر (1972م)، من قِبل المحرر سعيد الأفغاني في مجلة العربي في العدد رقم (169).
وترجمت من اللغة العثمانية إلى اللغة العربية أرسلها السلطان إليه عندما كان منفيًا في مدينة سالونيك عن طريق أحد الجنود الذي كان من تلاميذ أبو الشامات توضح ما حدث: (إنني لم أتخل عن الخلافة الإسلامية لسبب ما، سوى أنني بسبب المضايقة من رؤساء جمعية الاتحاد المعروفة باسم (جون تورك) وتهديدهم اضطررت وأجبرت على ترك الخلافة.
إن هؤلاء الاتحاديين قد أصروا وأصروا علي بأن أصادق على تأسيس وطن قومي لليهود في الأرض المقدسة (فلسطين)، ورغم إصرارهم فلم أقبل بصورة قطعية هذا التكليف، وأخيرًا وعدوا بتقديم (150) مائة وخمسين مليون ليرة إنجليزية ذهبًا؛ فرفضت بصورة قطعية أيضًا.
وأجبتهم بهذا الجواب القطعي الآتي: (إنكم لو دفعتم ملء الدنيا ذهبًا فضلًا عن (150) مائة وخمسين ليرة إنجليزية ذهبًا، فلن أقبل بتكليفكم هذا بوجه قطعي، لقد خدمت الملة الإسلامية والأمة المحمدية ما يزيد عن ثلاثين سنة فلم أسود صحائف المسلمين آبائي وأجدادي من السلاطين والخلفاء العثمانيين، لهذا لن أقبل بتكليفكم بوجه قطعي أيضًا).
وبعد جوابي القطعي اتفقوا على خلعي وأبلغوني أنهم سيبعدونني إلى سالونيك فقبلت بهذا التكليف الأخير، هذا وحمدت المولى وأحمده أنني لم أقبل بأن ألطخ الدولة العثمانية والعالم الإسلامي بهذا العار الأبدي الناشئ عن تكليفهم بإقامة دولة يهودية في الأراضي المقدسة فلسطين، وقد كان بعد ذلك ما كان ولذا فإني أكرر الحمد والثناء على الله المتعال، وأعتقد أن ما عرضته كاف في هذا الموضوع الهام).
في الختام هل برأيك السلطان عبد الحميد الثاني ظالم أم مظلوم؟!
اقرأ أيضًا: الزراعة بداية عصر النهضة المصرية في عهد محمد علي
كتبت: رانيا كمال.