عبس وتولى

ربما إذا دققنا النظر وفحصنا الأمر بنظرة الواقع نجد أنها لم تكن بالواقعة الكبيرة ونجد أن سيدنا رسول الله أصاب بهذا الفعل وأن بنيته السليمة وتقديره وجد أن هذا الفعل هو الأمثل والأنفع لدعوته، إلا أن الله -سبحانه وتعالى- بحكمه وعلمه لامه على هذا الفعل للدرجة التي أنزل في هذه الواقعة قرآنًا.

ولكن ما الحكاية وكيف ذلك؟ في بدايات الدعوة الإسلامية وكان من أسلم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عدد قليل، وكان أغلبهم من ضعفاء قريش، في الوقت الذي يقوم الرسول الكريم بعمل مجهود كبير في الدعوة إلى عبادة الله وترك عبادة الأوثان يجد من قادة قريش ورموزها أشد العناد والعداوة له ولدعوته وكان رسول الله يجاهد في عمل مقابلات معهم يدعوهم إلى دين الله.

ذات يوم (كأغلب الروايات وأكثرها صحة) كان رسول الله يتحدث مع نفر من أهل قريش اختلفت الروايات في أسمائهم ولا يهمنا الأسماء الأهم هو الحادثة التي حدثت، جاء رجل إلى رسول الله يسأله في مسألة ورجل أعمى يقال له ابن مكتوم وكان يريد أن يسأل أو يتذكر فتنفعه الذكرى، كان عبد الله ابن أم مكتوم لا يرى من يجلس مع رسول الله ولم يسمع عن ماذا يتحدث صلوات ربي وسلامه عليه وإنما فقط أراد أن يسأل.

اقرأ أيضًا: ما الدنيا؟.. اختلاف الراوي وظنية البداية

الرسول الكريم يهتم بالحديث مع الرجال الذين معه يحدثهم لا في أمر شخصي ولا أمر دنيوي لا يحدثهم عن التجارة والمال ولا يحدثهم عن الأهل والجيران ولا يحدثهم عن أمور الحكم ولا عن أمور خاصة بأهل قريش وأحلامهم وأفكارهم وخططهم بل لا يحدثهم عن أحلامه وأفكاره ودوافعه، فقط يحدثهم عن الدعوة إلى الله ورسالته التي هي أهم شيء في الوجود يريد أن يؤدي الرسالة التي أوكله الله بها على أكمل وجه هذه الدعوة التي يهون أمامها أي شيء آخر.

وكان أهل قريش حينها يتهمونه بأنه لا يتبعه سوى الضعفاء والعبيد وقليل من السادة، وما زال هذا نقاشهم وادعاءهم الذي يدعونه، ففي وسط هذا جاء عبد الله بن أم مكتوم يتحدث مع النبي في مسألة لم يذكرها لنا الله ولم يذكرها لنا أغلب كتب السيرة وربما (على قدر علمي) غير معروف عما كان يسأل الرجل فقط ما نعرفه أنه جاء يزكي أو يتذكر فتنفعه الذكرى .

فما كان من النبي أن رأى أن دعوة أهل مكة أهم من مسألة الرجل الأعمى فهو رجل مسلم وقد يستطيع الانتظار حتى يفرغ النبي من الدعوة إلى الله، أغلب الروايات تقول إن من كان معه عتبة بن ربيعه وعبد الحكم بن هشام وأبو سفيان وهؤلاء في ذلك الوقت من أهم أهل مكة، فإذا آمنوا معه ودخلوا في دينه لكان نصرًا كبيرًا لرسالته صلوات ربي وسلامه عليه، لذا لا أعتقد أن أي شخص عاقل يعرف أهمية هذه الجلسة إلا وكان تصرفه على أقل تقدير مثل تصرف النبي ألا وهو الإعراض عن ابن أم مكتوم والتركيز بالحديث مع أهل مكة؛ نظرًا لأهمية هذه الجلسة فهو يدعوهم إلى الله.

لا نعلم بالتحديد إن كان ابن أم مكتوم حزن أو سخط من إعراض النبي عنه ولا نعلم إن كان نظر إلى الله وقال أي شيء ولا نعلم عنه إن كان بالفعل قد أدرك خطأه أو أدرك أنه ما كان ينبغي أن يقتحم مجلس رسول الله أو يقاطعه في حديثه، والذي بالتأكيد ليس أهم من أمر الدعوة إلا أن الله -عز وجل- كان له شأن آخر؛ فأنزل سيدنا جبريل بآيات نتلوها حتى يومنا هذا ليذكرنا أن مجرد العبوس والإعراض (مهما عظم السبب) في وجه أحدهم لهو أمر جلل، فديننا الحنيف ورسولنا الكريم حثنا على البشاشة والتبسم والاهتمام بأمر الآخر، مهما عظمت الهموم والمشاكل ورغم أهمية التخطيط والتفكير ورغم قسوة الدنيا وأمورها، فإن مجرد العبوس في وجه الآخرين أمر منهي عنه للدرجة التي عاتب الله سبحانه رسوله الكريم حين فقط عبس في وجه أحدهم لا لسبب إلا لأنه يدعو بعض الكافرين لله -عز وجل- فقال له:

بسم الله الرحمن الرحيم:

عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَو يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُو يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10).

اقرأ أيضًا: ما الدنيا؟.. عرض المشكلة أولا

كتب: مصطفى رجب.