في نهاية القرن الثامن عشر وخاصة بعد الثورة العرابية التي قادها الزعيم أحمد عرابي ورفاقه على حكم الخديوي توفيق ابن الخديوي إسماعيل، ثار جدل واسع حول سؤال: لماذا تتبع مصر الدولة العثمانية حتى لو بالاسم؟ وانقسم الكثير من المصريين بين مؤيد لفكرة أن مصر أمة بذاتها، وتتمتع بالهوية المصرية ولا يجب أن تكون تابعة لأحد ولو تبعية اسمية، تحت أي اسم ولو كان عباءة الخلافة الإسلامية.

وكان هذا فريق القوميين وعلى رأسه الكاتب أحمد لطفي السيد، وتيار الخلافة الإسلامية، ووحدة المسلمين، ووجوب وجود رأس ومدبر للعالم الإسلامي ومقره بإسطنبول عاصمة الخلافة العثمانية، وعلى رأس هذا التيار الزعيم مصطفى كامل باشا، الذي قلده الباب العالي منصب الباشوية قبل أن يبلغ الثلاثين عامًا.

الزعيم مصطفى كامل باشا

الزعيم مصطفى كامل باشا

انتصر في النهاية تيار القومية المصرية واتحد معه تيار القومية العربية، وأعلنت مصر مملكة مستقلة يحكمها ملك هو (الملك فؤاد)، ولديها دستور هو (دستور عام 1922)، ورئيس وزراء كامل الصلاحيات هو الزعيم سعد زغلول باشا، تلك بعض من المعارك الأدبية والعلمية التي تثور بين الحين والآخر تثرى الحياة الأدبية والعلمية والثقافية للأمة المصرية.

هذا ما كان يدور بعقلي عندما رأيت تلك المعركة المثارة الآن بين الأزهر ورجاله الفضلاء الغيورين على الدين الإسلامي، وأسسه العلمية والمنهجية من قرآن كريم وسنة نبوية وإجماع لفقهاء المسلمين عبر السنين، وبين مركز تكوين الذي يقوده الكاتب الصحفي إبراهيم عيسى.

اقرأ أيضًا: رحلة في تاريخ الحضارة المصرية القديمة وبناء حضارتها العظيمة

مصر أمة بذاتها.. الهوية المصرية:

إن محبي التاريخ المصري القديم (الفرعوني) ودارسيه يعرفون كيف حافظ المصري القديم على الهوية المصرية المميزة له عن شعوب الأرض، فالمصري القديم له شكل، ولغة، وثقافة، وأحرف كتابة، وأزياء، وأدوات، ومستحضرات تجميل، وطقوس خاصة به، وحده اخترعها وطورها وحافظ عليها عبر آلاف السنين، حتى عندما هزم أمام بعض الغزاة لبعض الوقت، لم ينهزم أمام هؤلاء الغزاة في معركة الثقافة، واللغة، والعادات والتقاليد، والمظهر والجوهر، المصري الصميم أو بمعنى مبسط لم يذب في محيط غزاته وقاهريه عسكريًا، وهذا ما مكن المصريين في الانتصار عسكريًا في نهاية المطاف على جميع من احتلوا أرضهم لبعض الوقت.

مصر أمة بذاتها.. الهوية المصرية

مصر أمة بذاتها.. الهوية المصرية

حدث هذا مع الهكسوس، ومن بعدهم الحيثيين أو الفرس الذين احتلوا مصر مرتين، ثم البطالمة اليونانيين الذين ذابوا في الشعب والتقاليد والعادات والشكل المصري، ومن بعدهم جاء الرومان كأطول فترة احتلال دامت لأكثر من سبعمائة عام، قاوم فيها المصريون الاحتلال الروماني والبيزنطي ثقافيًا ودينيًا ومذهبيًا ولغة وعادات وعسكريًا، وخرج الاحتلال الروماني من مصر دون أثر يذكر اللهم إلا عمود السواري، الذي يشهد على عصر الشهداء الذين ضحوا بحياتهم من أجل الهوية واللغة والمعتقد والفهم المصري للدين والحياة.

رأي شخصي حول الرد على فكرة تغيير الهوية المصرية:

أعتقد أن أسوأ رد على فكرة تغيير الهوية المصرية، هو المنع والمصادرة والسجن، والجيد لأي فكر أن يصارع ويحارب بالفكر، ومقارعة الحجة بالحجة حتى تظهر الحقيقة، “فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض”، والإسلام دين الله منذ خمسة عشر قرنًا يدخل معارك ثقافية وعلمية انتصر فيها جميعًا، ومن أشهر معارك الإسلام الثقافية كانت على المصريين أنفسهم، فكيف حدث ذلك ومتى؟ هذا ما سنعرفه في السطور القادمة عندما نبحر في أعماق التاريخ المصري اللانهائي.

معركة الهوية المصرية:

كانت اللغة والهوية المصرية والعادات والتقاليد المصرية، هي جوهر الصراع المصري بيننا وبين الشعوب والجيوش المحتلة الراغبة في نهب ثروات الدولة المصرية، والأهم هو الانتصار على الدولة التي هزمت الدنيا والزمن، فلا أحد يعرف إلى الآن متى بدأت الدولة المصرية على وجه التحديد؟ لهذا من قناعة مصر وشعبها بعزتهم وتاريخهم اللانهائي وحضارتهم، كانوا مقتنعين أنهم أمة في ذاتهم وأنهم لا يجب أن يكونوا تابعين إلى أية أمة، سواء عسكريًا أو ثقافيًا أو لغويًا وهوية، وقاوموا أي عدوان أراد تغيير تلك المفاهيم والقناعات.

معركة الهوية المصرية

معركة الهوية المصرية

الإسلام والعرب ومصر:

قد يبدو هذا الكلام منطقيًا إلى زمن دخول الإسلام مصر (وهذه أيضًا كانت ولا تزال معركة ثقافية هل هو فتح أم غزو)، فقد تبدلت الأحوال المصرية، واتخذت الإسلام دينًا واللغة العربية لغة كتابة وتحدث، وتعربت مصر وفقدت هويتها المصرية القديمة، هذا الكلام خال تمامًا من الصحة، فيعرف المختصون والمثقفين أن الإسلام لم ينتشر فى مصر إلا بعد مائتين وخمسين عامًا من دخول الإسلام والمسلمين مصر، ولم يشكل الإسلام أكثر من خمسة بالمئة من ديانة شعب مصر طيلة تلك المدة، وكان شعب مصر محتفظا بجميع سماته اللغوية والشكلية والثقافية طيلة هذه المدة من الحكم الأموي والعباسي الأول.

فماذا حدث بعد ذلك؟ ولماذا فتح المصريون قلوبهم للإسلام ودخلوا فيه أفواجًا؟ وتحولت الهوية المصرية ولغتهم إلى اللغة العربية، وتعدلت كثير من عاداتهم لتناسب العادات والشعائر الإسلامية، هذا ما سنعرفه فى المقال التالي.

اقرأ أيضًا: سر الخلود.. حكام مصر عبر العصور

كتب: أحمد عبد الواحد إبراهيم.