عندما ننظر إلى الأشياء العظيمة من حولنا، نتساءل: من هو الأعظم؟ هل هو من اخترع الفكرة الأصلية، أم من أضاف عليها ليحولها إلى شيء استثنائي؟ بمعنى الأصل أم التطوير؟ التاريخ مليء بالنماذج التي تثير هذا التساؤل، من الأدب إلى الطبخ، ومن التسويق إلى التكنولوجيا، فهل العبقرية تكمن في الشرارة الأولى أم فيمن أشعل النيران وجعلها تضيء العالم؟ هذا ما سنحاول استكشافه في هذا المقال.
الأصل بداية كل شيء:
الأصل هو نقطة الانطلاق التي ينبثق منها كل شيء، لا يمكن إنكار أهمية البدايات، خذ على سبيل المثال التسويق الإلكتروني، في البداية كانت الفكرة مجرد إعلانات بسيطة عبر البريد الإلكتروني، كوسيلة للتواصل مع العملاء بشكل مباشر، هذه الفكرة رغم بساطتها كانت بمثابة ثورة في عالم الإعلان؛ لأنها كسرت حاجز المكان والزمان، إذًا العقل الذي أبدع هذه الفكرة يستحق التقدير لأنه وضع الأساس.
كذلك في عالم الطعام، المحشي مثال حي على عبقرية الأصل، أن تأخذ أوراق الكرنب أو العنب وتحشوها بخليط من الأرز واللحم، هو فن في حد ذاته، تخيل الشخص الأول الذي فكر في تحويل شيء بسيط إلى طبق مركب يجمع بين النكهة والتغذية، إنه بلا شك معلم في الابتكار.
اقرأ أيضًا: امتلاك ما لا يُشترى.. اكتشف الفرق بين القيمة والثمن
التطوير النقطة التي يتحول فيها الإبداع إلى فن:
ماذا عن التطوير؟ هنا يظهر نوع آخر من العبقرية، عبقرية تلتقط الفكرة الأصلية وتصقلها لتصبح أكثر جمالًا وفعالية، في عالم التسويق على سبيل المثال لم يتوقف المبدعون عند حدود البريد الإلكتروني، فجاء من حولوا الفكرة إلى استراتيجيات متعددة القنوات، من وسائل التواصل الاجتماعي إلى الإعلانات الديناميكية والذكاء الاصطناعي، من هنا نرى أن التطوير لا يقل أهمية عن الإبداع الأول، بل ربما يتجاوزه أحيانًا؛ لأنه يجعل الفكرة قابلة للتوسع والاستمرار.
وفي عالم الطبخ من الذي جعل المحشي يأخذ أشكالًا مختلفة؟ أضاف البعض التوابل الشرقية، وآخرون جعلوه وجبة نباتية تناسب الجميع، التطوير هنا لا يعني مجرد تحسين الطعم، بل تكييف الفكرة الأصلية لتتناسب مع الأذواق والثقافات المختلفة، وهو ما يجعل المحشي طبقًا عالميًا.
الأصل والتطوير في الأدب والفنون:
الأدب أيضًا يقدم لنا دروسًا عظيمة، خذ على سبيل المثال (المعلقات) في الشعر العربي القديم، الشعراء الأوائل مثل امرؤ القيس وضعوا أساس البلاغة والصور الفنية، ولكن لاحقًا جاء شعراء مثل المتنبي وطوّروا هذه الصور لتصبح أكثر تعقيدًا وعمقًا، الأصل هنا هو حجر الزاوية، ولكن التطوير هو الذي أضاف طابعًا شخصيًا فريدًا لكل شاعر.
في الأدب الغربي يمكننا رؤية نفس الشيء، شكسبير مثلًا استلهم العديد من مسرحياته من قصص وأساطير قديمة، ولكنه أضاف عليها بصمته الخاصة، التطوير هنا كان العامل الذي جعل أعماله خالدة، رغم أن الأساس لم يكن جديدًا تمامًا.
العقل الذي يفكر أم اليد التي تطبق؟
يقول الشاعر محمود درويش: “لو لم تكن الفكرة غامضة، لما وُلد الإبداع”، وهذا يعكس تمامًا العلاقة بين الأصل والتطوير، الفكرة الأولى غالبًا ما تكون غامضة بسيطة، لكنها تحمل في طياتها بذرة الإبداع، الشخص الذي يلتقط هذه البذرة ويرعاها، هو من يحولها إلى شجرة مثمرة.
خذ على سبيل المثال من اخترع العجلة، فكرة بسيطة ولكنها غيرت مجرى التاريخ، ومع ذلك هل يمكننا تجاهل العبقرية في تطويرها إلى سيارات وطائرات؟ بالطبع لا.
بين الأصل والتطوير من الأذكى؟
السؤال الذي يطرح نفسه: من الأذكى من اخترع التسويق الإلكتروني أم من طوره ليصبح علمًا قائمًا بذاته؟ من ابتكر المحشي أم من جعل الطعم لا يُنسى؟ الجواب ليس بسيطًا؛ لأنه يعتمد على الطريقة التي ننظر بها إلى الإبداع.
المبدع الأصلي هو من أطلق شرارة الفكرة، ولكنه غالبًا ما يعتمد على من يطورون هذه الفكرة ليجعلوها أكثر انتشارًا وتأثيرًا، يمكننا أن نقول إن الاثنين يكملان بعضهما البعض، فلا قيمة للأصل بدون تطوير، ولا وجود للتطوير دون فكرة أصلية.
في النهاية، العبقرية لا تُقاس بمن كان الأول أو من أضاف، بل بالأثر الذي يتركه العمل، ما يهم حقًا هو كيف غيرت الفكرة الأصلية أو المطورة حياتنا، وكيف ساهمت في تحسين العالم من حولنا، إذا كنت صاحب فكرة جديدة، فأنت تبدأ السباق، وإذا كنت مطورًا، فأنت من يصل بها إلى خط النهاية، وفي كل الأحوال فإن الإبداع الحقيقي يكمن في القدرة على رؤية الإمكانيات في الأشياء البسيطة وتحويلها إلى شيء غير عادي، وكما قال الكاتب نجيب محفوظ: “العظمة ليست في أن تبدأ فكرة، بل في أن تعيش هذه الفكرة وتمنحها الحياة”، فلنتذكر دائمًا أن الإبداع هو رحلة مستمرة، حيث يلتقي الأصل بالتطوير ليصنعا معًا شيئًا لا يُنسى.
اقرأ أيضًا: ثورة التواصل.. كيف أعادت التكنولوجيا رسم حياتنا؟
كتبت: رويدا الشراب.