أخشى على الفصحى من عامية بيرم، بهذه الكلمات وصف عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين كتابات الشاعر بيرم التونسي، الذي لقب بفنان الشعب، وهرم الزجل، وعمود من أعمدة شعر العامية المصرية، وسنتناول سيرته الذاتية في هذه السطور القادمة.

الشاعر بيرم التونسي في سطور:

هو محمود محمد مصطفى بيرم الحريري، ولد في 23 مارس عام 1893م بحي الأنفوشي بمحافظة الإسكندرية، لعائلة تونسية كانت تعيش في حي السيالة، وفي شبابه تعرف على سيد درويش، وربط حب الفن بينهما وعمق صداقتهما، حيث كانا يجتمعان في السهرات الفنية التي كانت تشهدها مدينة الإسكندرية في ذلك الوقت، وقد كتب بيرم لسيد درويش عددًا من الأغاني، أشهرها أوبريت شهر زاد، الذي يعتبر من أروع ما كتب عن الشعب المصري، حيث يقول فيه: “أنا المصري كريم العنصرين.. بنيت المجد بين الأهرمين.. جدودي أنشأوا العلم العجيب.. ومجرى النيل في الوادي الخصيب”.

الشاعر بيرم التونسي في سطور

الشاعر بيرم التونسي في سطور

ودخل بيرم مجال الصحافة، وقام بإصدار صحيفة (المسلة)، ثم عمل بعد ذلك كاتبًا صحفيًا في عدة صحف مصرية، وكان معروف أن الشاعر بيرم التونسي تم نفيه من مصر عدة مرات، فقد نُفي من مصر إلى تونس، ثم إلى باريس، وبدأ حياته الشعرية كشاعر منفي يحن ويشتاق إلى أرض وطنه، حيث ظهر ذلك في أعماله وكتاباته في أثناء وجوده في المنفى، وفي عام 1952م قامت الثورة في مصر، ففرح بها بيرم وأيدها بشدة، وكتب فيها الأشعار والأزجال الحماسية المؤيدة للحرية، وفي عام 1954م حصل بيرم على الجنسية المصرية، ثم دخل المجال الفني وتعمق فيه، فقام بكتابة الكثير من الأغاني، وتعامل مع كبار المطربين وعمالقة الطرب مثل: أم كلثوم، فريد الأطرش، أسمهان، محمد الكحلاوي، شادية، نور الهدى، ومحمد فوزي.

وفي عام 1960م منحه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر جائزة الدولة التقديرية عن جهوده في مجال الأدب والفن، وبعد عام على تكريم الدولة المصرية له ، رحل عن دنيانا في 5 يناير عام 1961م، بعد معاناته مع مرض الربو الشعبي، تاركًا وراءه إرثًا كبيرًا من الأزجال والقصائد والمسرحيات للأجيال التالية، وتجربة مثيرة تحمل العديد من الدروس، خاصة في مجال النضال الاجتماعي من أجل الوطن وحرية الشعب، لهذا استحق وعن جدارة لقب فنان الشعب، وشاعر العامية، وهرم الزجل.

اقرأ أيضًا: سيد حجاب.. شاعر العامية الذي عشقه الناس

حياة الشاعر بيرم التونسي وبداياته:

لم تكن طفولة بيرم التونسي عادية أو سعيدة، بل صادفته منذ صغره أحداث مأساوية أثرت فيه كثيرًا، حيث فُوجئ بحادثين وهو في العاشرة من عمره، الحادث الأول هو مولد أخته وموتها بعد ثلاثة أيام، والحادث الثاني حينما اكتشفت أمه أن أباه تزوج عليها، وكان لهاتين الحادثتين أثر كبير على نفس الطفل، فأصبح طفلًا حزينًا لا يلعب مع الأطفال، وزاد من ذلك الحزن وتلك التعاسة المبكرة موت أبيه، واستيلاء زوجته على ثروته لحظة موته، كما استولى أبناء عمه على تجارة أبيه، وبسبب ذلك انقطع بيرم عن الدراسة في الكتاب، واضطر للعمل كصبي في محل بقالة، وأصبح رجل البيت وهو في الثانية عشرة من عمره.

ولم ينته الأمر عند هذا الحد من التعاسة، بل ازدادت تعاسته حينما تزوجت أمه، واضطر بيرم للعمل مع زوج أمه في عمله الشاق في صناعة هوادج الجمال، ثم توفيت أمه عام 1910م، وبدأ حياة من الضياع، حيث انتقل بيرم للإقامة مع أخته لأبيه المتزوجة من خاله، وكانت قاسية وشديدة تعد عليه الأنفاس والحركات، وتضيق ذرعًا بأية خدمة تؤديها له.

وذات يوم التقى بيرم بأحد البنائين، وبدأ الحديث معه، حيث حكى له البناء قصة (السلك والوابور) وهي حكاية طريفة بين التلغراف والقطار، وعشق بيرم حديث هذا البناء، لدرجة أنه أصبح ينتظره كل أسبوع، ليروي له بعض القصص الشعبية التي يحفظها، ويزداد حب بيرم لهذه القصص، فأصبح لا يكتفي بسماعها، وعرف مصدرها في حي الشمرلي؛ فبدأ يدخر من مصروفه ليشتري من مكتبات هذا الحي كتب الأساطير الشعبية مثل: ألف ليلة وليلة، أبو زيد الهلالي، عنترة، وغيرها.

وكانت بعض تلك الأساطير تحتوي أبيات من الشعر أعجبته، فبدأ في شراء دواوين الشعر، وكان يقرأها في شغف شديد، حتى وقع في يده بعض أشعار ابن الرومي ففُتن بها بدرجة كبيرة، تعلم منها روح الهجاء، فكانت هي و بعض الأزجال بداية سريان روح النقد اللاذع في دمه، وعشقه للسخرية والزجل، كما أقبل بيرم على قراءة الكتب المختلفة قي الشعر والصوفية، واشترى كتبًا للمقريزي والغزالي وغيرهم، أيضًا قرأ في الأدب الشعبي لعبد الله النديم، وحفظ أزجال الشيخ النجار والشيخ القوصي، فتأثر بها وحاول تقليدها.

بيرم التونسي شاعرًا:

ذات يوم فوجئ الشاعر بيرم التونسي بالمجلس البلدي في الإسكندرية، يحجز على بيته، ويطالبه بمبلغ كبير كضرائب عن سنوات سابقة لا يعلم عنها شيئًا، وكأن الله قد سخر هذا الحدث لتعلن الدنيا عن ميلاد فنان جديد سيذيع صيته في العالم العربي كله، فقد اغتاظ بيرم من هذا الحدث، وقرر أن يرفع راية العصيان بقصيدة هجاء ضد المجلس البلدي، يجعله فيها مسخرة في أفواه الناس، وبالفعل كتب بيرم أولى قصائده، ونشرت بجريدة (الأهالي) في الصفحة الأولى.

بيرم التونسي شاعرًا

بيرم التونسي شاعرًا

وطُبع من العدد الذي نشرت فيه أربعة آلاف نسخة، ثمن النسخة خمسة مليمات، وطافت القصيدة كل أحياء الإسكندرية، حتى أنه لم يعد في الإسكندرية من لم يتكلم عنها، أو يحفظها أو يرددها، والغريب أن موظفي المجلس البلدي طلبوا ترجمتها إلى اللغات الأجنبية ليستطيعوا فهمها، حيث إنهم كانوا جميعًا من الأجانب، وهكذا أرشد القدر بيرم إلى مهنة الأدب كوسيلة للرزق، حيث بدأ بعد ذلك بإصدار كتيبات صغيرة تتضمن مختلف الانتقادات الاجتماعية، بأسلوب ساخر طريف.

اقرأ أيضًا: رحيل كريم العراقي.. شاعر الحب والوطن عن عمر ناهز 68 عاما

اتجاه الشاعر بيرم التونسي إلى الزجل:

اهتم بيرم في تلك الفترة بتأليف الشعر، إلا أنه أدرك بعد فترة أن الشعر لن يكون وسيلة جيدة، خاصة عند شعب 95% منه لا يقرأون، ولهذا اتجه بكل أفكاره إلى الزجل، ليقترب إلى أذهان الغالبية العظمى من المصريين، وكانت أزجاله تتميز بالدعابة والنقد الصريح الذي يحمل أحيانًا العلاج السريع لعيوب المجتمع، وكان يعتمد في أعماله الزجلية على السرد القصصي، فيصور العلاقات الزوجية، ومشكلات الطلاق، والعادات الاجتماعية في تلك الفترة مثل حفلات الولادة والطهور والزار.

بيرم التونسي ناقدًا:

آمن بيرم التونسي بضرورة النقد، ودوره في الإصلاح، فكان يقول: “إن النقد هو امتداد للنبوة، ولولا النقاد لهلك الناس، ولطغى الباطل على الحق، وبقدر ما يخفت صوت الناقد يرتفع صوت الدجال والجاهل”، وقد علق يومًا على انحطاط وتدني الأغنية، بأنه يعتبر الأغنية مدرسة، يمكنها أن تعطينا قيمًا سليمة، أو تدس لنا سمومًا خبيثة، فهي أداة خطيرة للنشر في هذا العصر، وللأسف لا أحد يدرك أو يقدر خطر الأغنية على الناس، لا المؤلف ولا الملحن ولا المطرب.

بيرم التونسي ناقدًا

بيرم التونسي ناقدًا

أقوال الشاعر بيرم التونسي في مصر:

من أجمل ما قال بيرم التونسي في مصر: “قومي اقلعي الطرحة السودة يا أم الهرمين.. وركبي الوردة الموضة بين النهدين.. يا أم الخصال المعبودة.. أنا أحطك فين”.

وقال أيضًا في الشعب المصري: “يا مصري ليه ترخي دراعك.. والكون ساعك.. ونيل جميل حلو بتاعك يشفي اللهاليب.. خلق إلهك مقدونيا على سردينيا والكل زايطين في الدنيا.. ليه إنت كئيب.. ما تحط نفسك في العالي.. وتتباع غالي.. وتتف لي على اللي في بالي من غير ما تعيب”.

قالوا عن الشاعر بيرم التونسي:

تحدث الكثيرون عن بيرم التونسي، فقال عنه الكاتب كامل الشناوي: “بيرم فنان ثائر، عاش طوال حياته يعاني الفقر والقلق، وشظف العيش، وقد يخشى بعض المثقفين عندنا من الاعتراف به، في حين أن جامعات أوروبا تدرس آثاره وتعترف بموهبته الأصلية وفنه الرفيع”.

وقد مدحه أمير الشعراء أحمد شوقي، فقال عنه: “زجل بيرم التونسي فوق مستوى العبقرية”.

وقال عنه عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين: “أخشى على الفصحى من عامية بيرم”.

قالوا عن الشاعر بيرم التونسي

قالوا عن الشاعر بيرم التونسي

اقرأ أيضًا: الشاعر نزار قباني.. قامة شعرية عربية خالدة

أعمال الشاعر بيرم التونسي:

عمل بيرم التونسي مع كبار المطربين وعمالقة الغناء، ومن أبرز هذه الأعمال:

مع الموسيقار محمد عبد الوهاب:

كتب له أغنية ماحلاها عيشة الفلاح.

مع أم كلثوم:

كتب الشاعر بيرم التونسي للسيدة أم كلثوم العديد من الأغنيات، مثل:

  • أنا في انتظارك.
  • هو صحيح الهوى غلاب.
  • غنيلي شوي شوي.
  • يا صباح الخير.
  • الحب كده.
  • القلب يعشق كل جميل، وغيرها.

مع فريد الاطرش:

كتب الشاعر بيرم لفريد الكثير من الأغنيات الخفيفة، مثل:

  • أحبابنا يا عين.
  • يلا توكلنا.
  • بساط الريح.
  • يلا سوا.
  • هلت ليالي، وغيرها.

كتب الشاعر بيرم التونسي أيضًا بعض الأغنيات الوطنية، مثل:

  • يا جمال يا مثال الوطنية.
  • بالسلام إحنا بدينا، وغيرها.

ولم تخلُ أغنياته من حس الفكاهة الذي تميز به، فكتب بعض المونولوجات، مثل:

  • حاتجن ياريت ياخوانا مارحتش لندن ولا باريس.
  • يأهل المغنى دماغنا وجعنا.
  • يا حلاوة الدنيا يا حلاوة، وغيرها.

وبهذا عزيزي القارئ، كنا في رحلة مع رمز من رموز الشعر والأدب المصري والعربي، عميد الزجل، وهرم شعر العامية، الفنان الراحل الشاعر بيرم التونسي، الناقد الساخر الثائر الذي أثبت أن الفن الحقيقي هو رسالة تهذيب وإصلاح.

اقرأ أيضًا: شوقي حجاب.. شاعر الأحاسيس العربية العميقة

كتبت: سحر علي.