مصر في عهد الدولة الإخشيدية

فى مصر أم الدنيا وأم العجائب والغرائب ،كل شىء ممكن وكل شىء يحدث حتى ولو كان غير معقول أو مقبول عرفاً أو شرعاً ،ويصل العجب يصل إلى منتهى عندما لا تكون المقدمات معبرة عن النهايات .

فكيف لعبد حبشي وكل الأفارقة السود فى هذا الوقت يطلق عليهم أحباش خصى ، ضعيف البنيان ، مصاب فى قدمه بعرج ، ليس له قبيله تدعمه ، ولا عشيرة تحارب معه .

رجل بمفرده يحكم مصر والشام والحجاز وليبيا ما يقرب من ربع قرن وسط صراعات وحروب و دسائس ومؤامرات وانقلابات ليل نهار .

وهذا الكافور يقف وسط تلك العواصف والأعاصير هادئ يدير دفةوالأمور على أحسن ما يكون .

وهو الذى لم يتربى على السياسة ولا يعرف شيء عن أمور الحكم وقيادة الأمم قبل أن يصبح حاكم الشرق .

فا هيا نتعرف على تلك الشخصيه الفذة فى التاريخ المصرى والعربى والإسلامى .

عبد خصى:

فى أفريقيا السوداء كانت تجارة العبيد رائجة فيؤخذ الطفل الأفريقى من أهله إما شراء أو يُسرق كما تسرق البهائم ويذهب به إلى حواضر العالم فى بغداد أو دمشق أو حلب أو مصر .

ليباع فى أسواقها عبداً لمختلف الأعمال البدنية والمالية والخدمية.

لكن عبيد الدار والقصور سيشاهدون نساء المنزل أو القصر ويتعاملون معهن ويبيتون ويسكنون داخل الدار أو القصر مع نساء المنزل .

ولم يكن هذا مسموح به ، لهذا كان يلجأ تجار العبيد والرفيق إلى ذبح رجولة هؤلاء الأطفال والصبية الصغار ووضعهم فى حفرة ممتلئة بالرماد ليكوى جروحهم الغزيرة ويوقف النزيف الحاد الذى يحدثه الذبح .

وبعد عدة أيام يموت الكثيرين من هؤلاء الصبية والأطفال ويتبقى القليل حي .

فيصبح من المحظوظين فيمنيهم تاجر العبيد بعيشة راضية فى أحد قصور الشرق حيث النعيم والطعام والشراب والمسكن الهادئ الجميل .

ويحمل هؤلاء الأطفال والصبية من أدغال وأحراش أفريقيا إلى قصور وبيوت حكام وأثرياء الشرق .

لكن صاحبنا كافور لم يجد قصر ولا بيت ولا أحد يريد شراءه لمظهره الغير متناسق وقبح وجهه وعرج قدمه .
وفى النهاية باعه تاجر الرقيق لصاحب معصرة زيوت فى الفسطاط بأبخث الأثمان وكان صاحب المعصرة فيه من الزاهدين .

وظل كافور الحبشى يعمل بكل طاقته حتى يرضى صاحبه ، لكن صاحب المعصرة لا يرضى عنه ويحمله ما لا يطيق .

“صدفة خير من ألف ميعاد “

وفى يوم جاء لصاحب المعصرة صديق له من كتبة ديوان القصر.

وطلب هذا الكاتب من صديقه أن يبحث له عن مساعد يحمل عنه أوراقه ودفاتره ويجهز له أموره .

وبسرعة قام صاحب المعصرة بإهداء صديقه الكاتب العبد كافور تخفيفاً من أعباءه ومعونة لصديقه .

وقبل الكاتب الهدية وانتقل كافور إلى الفسطاط والقطائع مركز الحكم فى مصر وهما الآن ضمن أحياء القاهرة .

وتعلم كافور القراءة والكتابه بل أصبح معلم للصغار يؤدبهم ويعلمهم القراءة والكتابه وآداب الطعام والشراب والحياة فى القصور والبيوت الكبيرة .

وتعرف الكاتب مالك كافور على سيد مصر الجديد محمد بن طغج الأخشيدى.

كافور العبد الإخشيدي

“الأخشيدى “

هو لقب فارسى يطلق على أمراء مملكة فرغانة ، ويعنى السيد الداهية أو السيد الذكى الألمعى.

وكان محمد بن طغج من تلك الإمارة الفارسية فى دولة أوزبكستان الآن .

و ألقى محمد بن طغج بنفسه ومن قبله والده فى قصور بغداد ومؤامراتها يطمعون فى الوصول إلى ولاية أو منصب كبير فى الدولة العباسية .

حتى تعرف محمد بن طغج على وزير الدولة العباسية وعرض عليه أن يزوجه أبنته الجميلة إن ساعده فى أن يتولى ولاية مصر التى أسقط العباسيين منها حكم الطولونيين بعد حرب سياسية وعسكرية مريرة .
فوافق الوزير العباسى .

وأصدر الخليفة العباسي إبراهيم المتقى الله
قرار تعيين محمد بن طغج والى على مصر وبعد برهة ضم له الشام والحجاز .

وأصبح كافور من ضمن خدم أمير مصر ومسئول عن تربية ولديه الصغيرين انوجوز وعلى .

وطيلة عشر سنين من العمل فى قصر الوالى أستطاع كافور أن يكسب ثقة مولاه محمد بن طغح.

لدرجة أنه عندما شعر محمد الأخشيدى بوعكة صحية قام بكتابة وصيته يعهد فيها بولاية عهده وحكم مصر والشام لولده الصغير انوجوز وأن يكون المملوك كافور وصى على العرش حتى يبلغ ابنه مبلغ الرجال ويحكم منفرداً .

ولم يرضى محمد طغج أن يعين أخيه حسن وصى على أولاده وعرشه من بعده مخافه أن ينفرد بحكم البلاد ، سبحان الله .

ومات محمد بن طغج الأخشيدى وعقد مجلس الحكم وقادات الجيش المصرى الأخشيدى و الفقهاء العلماء الوزراء .
وتم إظهار وصية محمد بن طغج الأخشيدى و التى وافق عليها الخليفة وحاول البعض التحجج بصغر سن الأمير الجديد والبالغ خمسة عشر عام .

لكن كافور وبعض الحضور ذكروا الجميع من أن الشرق يشتعل والفوضى على الأبواب وأن الدوله الفاطمية الوليدة فى المغرب العربى تتيح الفرصة لدخول مصر ونشر المذهب الشيعى مما يعنى القضاء على رجال المذهب السنى قتلاً وتشريداً وتهجيراً وتغيير نظام الدولة.

وبالطبع فلكل دولة رجالها ومن الشرق الدولة العباسية التى أصبح يتحكم بها معز الدولة البويهى وهو طامع فى خيرات مصر والشام .

وبعد تلك المداولات أعلن، أنوجور الأخشيدى والى مصر والشام تحت وصية ورعاية كافور .

ومن يومها أصبح كافور أو المسك كافور الأخشيدى هو حاكم مصر الحقيقى .

فقد أرسل الهدايا إلى معز الدولة البويهى باسم أنوجور طالباً تعيين أخيه على ولى لعهده تحت رعاية كافور .

وتم ما أراد كافور وأصبح الوصى على الولدين بأمر بغداد .
فعزل أنوجور داخل قصره وأحاطه بالغلمان والجوارى التى تحصى عليه أنفاسه وتنقلها إلى كافور .

كما شدد الحراسه عليه فلا يقابل أحد ولا يتصل بأحد وخصص له منحة مالية سنوية ينفق منها كما يشاء بدون التدخل فى شئون الحكم .

وبعد عامين أصبح يتم الدعاء فى المساجد للمسك كافور بعد الخليفة العباسى وتم حذف أسم أنوجور .

وأحسن كافور من قيادة دفو الأمور داخلياً وخارجياً.
فعلى المستوى الداخلى لم يبذر واعتدل فى نفقاته وانتظم فى دفع رواتب الجند وموظفى الدولة فسادت الطمأنينة وقل السخط وأمن الناس على أموالهم وتجارتهم وأرزاقهم.

وساد السلام ، فلم تقم أى حروب بين الدولة الأخشيدية وجيرانها الفاطميين والعباسيين .
بل كانت مناوشات سياسية وظل حبل الود موصول بين كافور وبين الفاطميين والعباسيين .

وعندما أراد أنوجور أن يسترد ملكه المسلوب وهرب خارج مصر إلى فلسطين .
راسله كافور ورضاه ووعده خيراً وزاد له فى النفقة ثم أمر أن يوضع له السم فى طعامه فمات أنوجوز وهو فى سن الثلاثين ولم يحكم دوله والده يوماً واحداً.

وبسرعة تم تعين على الأخشيدى والى على مصر تحت وصية كافور .

كافور حاكم مصر

“المتنبى و كافور “

قدم أبو الطيب المتنبي الشاعر المشهور إلى مصر فاراً من سيف الدولة الحمدانى أمير حلب بعد أن أوقع بينهم الوشاة.
جاء إلى مصر طالباً ولاية أو وزارة مقابل مدحه لكافور فقد قال :

أبا المسك هل فى الكأس فضل أناله
فأنى أغنى منذ حين وتشرب
وهبت على مقدار كفى زماننا
ونفسى على مقدار كفيك تطلب
اذا لم تنط بى ضيعه أو ولايه
فجودك يكسونى وشغلك يسلب

لكن كافور رأى فى المتنبى غرور وتيها وقناة لا تلين بمكرمة أو فضل .

فأعرض عن المتنبي ووصله ببعض المال ليدبر أموره .
لكن المتنبى كان يطمع فى وزارة أو ولاية لاعتقاده فى علو شأنه ورفعة مكانته فهو العربى الفحل الشاعر المفوه كاتب الحكمه .

فغادر المتنبى مصر بعد أن يأس من كافور وبعد مغادرته مصر سب وقذفه بقصيدة منها:

لا تشترى العبد إلا والعصا معه
إن العبيد لأنجاس مناكير.

واستمر كافور فى سياسة الحياد بين العباسيين والفاطميين .
وعندما حاول على الأخشيدى الظهور والحكم لاقى مصير أخيه ومات بالسم .
واستمر حكمه إثنين وعشرون عام مرت هادئة وافرة الثمار على المصريين .
لكنها مهدت الطريق أمام الغزو الفاطمى لمصر بعد وفاة المسك كافور الأخشيدى مباشرة .

فسبحان من يرث الأرض ومن عليها.

كتب: أحمد عبد الواحد إبراهيم