الدولة المملوكية 3

04 11 2017 58308

بعد إنتهاء صراع المماليك في مصر مع بني أيوب في الشام بأمر الخليفة العباسي المستعصم بالله أصبح العالم الإسلامي متأهباً للزحف المغولي الذي بدأ يأكل الشرق الأسيوي شيئاً فشيئاً، ولكن كان المسلمون على ميعاد مع فاجعة كبيرة ستجعلهم يظنون أن القيامة قد قامت، وأن يأجوج ومأجوج قد خرجوا من سجن ذي القرنين.

سقوط الخلافة العباسية في بغداد:

كان الاستيلاء على العراق من ضمن السياسة المغوليَّة العامَّة القاضية بِالتوسُّع في غرب آسيا والسيطرة على ما تبقَّى من العالم الإسلامي بعد سُقُوط خوارزم وفارس في عهد الخاقان الأعظم منكو خان. حيث عهد الخاقان سالف الذِكر إلى أخيه هولاكو خان القيام بِتنفيذ هذه المُهمَّة وفتح ديار الإسلام حتَّى أقاصي مصر بعد أن منحهُ إقليم فارس والولايات الغربيَّة، وحدَّد لهُ إطار العلاقة مع الخليفة العبَّاسي، بحيثُ إذا قدَّم فُرُوض الولاء والطَّاعة فلا يتعرَّض له، أمَّا إذا عصى، فعليه أن يتخلَّص منه حتَّى لا يُشكِّل وُجوده عقبة في طريق الزحف المغولي. ومن جهته، وضع هولاكو خطَّة عسكريَّة تقضي، أولًا، بِالقضاء على طائفة الحشاشين الإسماعيليَّة، ثُمَّ غزو المناطق الغربيَّة وُصولًا إلى مصر، في مرحلةٍ ثانية. وبعد أن حقَّق هدفه الأوَّل سار لِتحقيق هدفه الثاني، وبدأ بِغزو العراق. ولمَّا رفض الخليفة العبَّاسي الخُضُوع لِلمغول، وردَّ على رسائل هولاكو خان ردًا قاسيًا تضمَّن تهديدات، سار الأخير بِجُيُوشه الجرَّارة نحو عاصمة الخِلافة وحاصرها من كُلِّ جانب بِحُلول يوم 12 مُحرَّم 656هـ المُوافق فيه 18 كانون الثاني (يناير) 1258م، ووصل هولاكو بنفسه لِيُشارك في الحصار يوم 13 مُحرَّم 656هـ المُوافق فيه 19 كانون الثاني (يناير) 1258م، لِيبلغ عدد القُوَّات المُحاصرة بغداد نحو 200,000 مُقاتل وفق تقدير ابن كثير. ضيِّق المغول الحصار على بغداد ودكُّوها دكًا بِقذائف المجانيق ثُمَّ دخلوها عنوةً في يوم الأربعاء 9 صفر 656هـ المُوافق فيه 14 شُباط (فبراير) 1258م، واستباحوها وقتلوا كُلَّ نفسٍ صادفتهم ونهبوا وحرقوا كُل ما صادفوه، وكان الخليفة قد خرج منها وسلَّم نفسه لِلزعيم المغولي دون قيدٍ أو شرط بعد أن وعده هولاكو خان بِالأمان. وقد انتهت هذه الأحداث بِقتل الخليفة المُستعصم وابنيه أبي العبَّاس أحمد وأبي الفضائل عبدُ الرحمٰن، وأسر ابنه الأصغر مُبارك وأخواته الثلاث فاطمة وخديجة ومريم، ثُمَّ استسلمت الحلَّة والكُوفة وواسط والموصل. وبِسُقُوط بغداد ومقتل الخليفة المُستعصم انتهت دولة الخِلافة العبَّاسيَّة في بغداد التي عمَّرت ما يزيد عن خمسة قُرون. كان لِسُقوط بغداد دويٌّ هائلٌ وعميقٌ في مُختلف أنحاء العالم الإسلامي. واهتزَّ الحُكَّام المُسلمون في المناطق المُجاورة لِهذا الحدث الجلل. واعتبر المُسلمون في كُلِّ مكان، أنَّ سُقوط الخلافة العبَّاسيَّة صدمةٌ مُريعة، وتحديًا مُخيفًا، كان لهُ أسوأ الأثر في نُفوسهم. فعلى الرُغم من أنَّ الخِلافة ظلَّت مُنذُ زمنٍ طويلٍ تفقدُ قدرًا كبيرًا من سُلطتها الماديَّة، فإنَّ مكانتها الأدبيَّة والروحيَّة لا زالت قويَّة، وتوجَّس الأيُّوبيين في الشَّام والمماليك في مصر خيفةً من الآتي.

التوغل المغولي في الشَّام ومعركة عين جالوت:

كان السُلطان المملوكي عز الدين أيبك قد قُتل قبل سنة من سُقُوط بغداد، وتحديدًا يوم الثُلاثاء 24 ربيع الأوَّل 655هـ المُوافق فيه 10 نيسان (أبريل) 1257م، على يد بعض غلمانه نتيجة تحريض زوجته شجر الدُّر بعد ازدياد الوحشة بينهما وتدخُّلها في شُؤون الحُكم، ولم تلبث شجر الدُّر أن قُتلت هي الأخُرى أيضًا على يد جواري امرأة أيبك الأولى أُم نُور الدين عليّ. على أثر مقتل أيبك، بايع المماليك ابنه نُور الدين عليّ، وعُمره خمس عشرة سنة، ولقَّبوه بِالملك المنصور. عاشت البلاد في تلك الفترة حالة قلقٍ واضطراب وعدم استقرار بِسبب عدم إلمام المنصور بِشُؤون الحُكم ولِتنافس الأُمراء على تبُّوء العرش، بِالإضافة إلى وُصُول خبر سُقُوط بغداد واستباحتها ومقتل الخليفة، ومسير المغول نحو الشَّام، فشاع الخوف والقلق بين الناس، وأصبح الوضع حرجًا يتطلَّب وُجود رجلٍ قويٍّ على رأس السلطنة، وعلا في هذه الأوضاع المُضطربة نجم الأمير سيفُ الدين قُطُز، نائب السلطنة كأقوى أميرٍ مملوكيّ، فأخذ على عاتقه توحيد صُفُوف المماليك من مُشكلة الحُكم، وأقدم على عزل المنصور نور الدين عليّ في شهر ذي القعدة سنة 657هـ المُوافق فيه شهر تشرين الثاني (نوڤمبر) سنة 1259م بِمُساعدة الأعيان والأُمراء، وتربَّع على عرش السلطنة المملوكيَّة لِيتفرَّغ لِمُواجهة المغول. كان من الطبيعي أن يتلو غزو المغول لِلعراق، مُهاجمة الشَّام. وكان هولاكو قد أرسل، أثناء حصار بغداد، فرقة عسكريَّة استولت على إربل، ومن ثُمَّ أشرف المغول على البلاد الشَّاميَّة. وقف أمير أنطاكية الصليبي بوهيموند السادس إلى جانب المغول رُغم تردُّد باقي الإمارات الصليبيَّة وتخوُّفها من الانضمام لِهؤلاء، وحالف الأرمن في قيليقية المغول وشجَّعوهم على القضاء على المُسلمين في الشَّام واشتركوا معهم في قتالهم على أمل استخلاص الأراضي المُقدسة منهم وبيت المقدس خُصوصًا. أمَّا المُلُوك والأُمراء المُسلمون فكانوا يفتقدون الرَّابطة الاتحاديَّة، وعمل كُل أميرٍ بِاستقلالٍ عن الآخر. لِذلك، ضرب الناصر يُوسُف الأيُّوبي الصُلح مع المماليك بِعرض الحائط، وعرض على هولاكو التعاون أملًا باسترجاع مصر لِلبيت الأيُّوبي. وكان أن استجاب هولاكو لِتلك الدعوة، وقرَّر إرسال قُوَّة من عشرين ألف فارس إلى الشَّام، ولم يلبث المغول أن زحفوا من العراق على الشَّام، فانتقلوا في سُرعةٍ مُذهلةٍ من ديار بكر إلى آمُد يُريدون حلب. ولم يُوفَّق المُسلمون في الدفاع عن حلب فدخلها المغول وقتلوا ونهبوا وسلبوا وفعلوا عادة فعلهم. وهُنا أفاق النَّاصر يُوسُف لِحقيقة خطر المغول، فأرسل إلى قريبه المُغيث عُمر صاحب الكرك والمُظفَّر قُطُز صاحب مصر يطلب منهُما النجدة السريعة. على أنَّهُ يبدو أنَّ كثيرًا من الأُمراء بالشَّام خافوا عاقبة مُقاومة المغول ونادوا بِأنَّهُ لا فائدة من تلك المُقاومة، فأخذ الأمير زينُ الدين الحافظي يُعظِّم من شأن هولاكو وأيَّد مبدأ الاستسلام له، ولكنَّ الأمير رُكن الدين بيبرس البندقداري – وكان قد أصبح من أُمراء المماليك البحريَّة بالشَّام – لم يُعجبه ذلك القول، فقام وسبَّهُ وضربه وقال له: «أَنْتُمُ سَبَبُ هَلَاكُ المُسْلِمِيْن!» ولم يرضَ بيبرس ومن معهُ من البحريَّة عن مسلك الناصر يُوسُف وأُمراء الشَّام، فساروا إلى غزَّة، وأرسل بيبرس إلى السُلطان قُطُز يعرض عليه توحيد جُهود المُسلمين ضدَّ خطر المغول. وفي الحال استجاب قُطُز للدعوة، فأرسل إلى بيبرس يطلب منهُ القُدوم، واستقبلهُ بِدار الوزارة وأقطعهُ قليوب وأعمالها.

سقطت مُدن الشَّام الواحدة تلو الأُخرى في يد المغول، فساروا من حلب إلى دمشق ثُمَّ بعلبك نُزولًا إلى فلسطين حتَّى بلغوا غزَّة. وأرسل هولاكو إلى قُطُز خطاب تهديدٍ ووعيد يطلب منهُ التسليم ويقُولُ له: «يَعلَمُ المَلِكُ المُظَفَّرُ قُطُز وَسَائِرَ أُمَرَاءَ دَوْلَتِهِ وَأَهلَ مَملَكَتِهِ بِالدِّيَارِ المِصْرِيَّةِ وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الأَعمَالِ، أَنَّا نَحنُ جُندَ الله فِي أَرضِهِ، خَلَقَنَا مِن سَخطِهِ وَسَلطِهِ عَلَى مَن حَلَّ بِهِ غَضَبِهِ… فَاتَّعِظُوا بِغَيْرِكُمُ.. فَنَحْنُ لَا نَرْحَمُ مَن بَكَى وَلَا نَرُقُّ لِمَن شَكَى…». وختم رسالتهُ بِقصيدةٍ جاء في مطلعها:

 

ألا قُل لِمصر ها هُلاون قد أتى                   بِحدِ سُيوفٍ تُنتضى وبواترُ

يصيرُ أعزُّ القوم منا أذلةً                   ويُلحق أطفالًا لهم بالأكابرُ

ولكنَّ قُطُز لم يجبن أمام ذلك التهديد، فقتل رُسُل المغول وعلَّق رُؤوسهم على باب زويلة، وقرَّر الخُرُوج لِلتصدِّي لِلمغول، وشجَّعهُ على ذلك الأنباء التي أفادت بِرحيل هولاكو شرقًا بعد أن علم بِوفاة الخاقان الأعظم منكو خان، وتركه القيادة بِيد نائبه كتبغا، وأنَّ الصليبيين نفضوا يدهم من التحالف مع المغول لِعدم ثقتهم فيهم، فرأى أنَّ الفُرصة أصبحت مُؤاتية لِلوُقوف بوجه هذا الخطر ودحره والانتصار عليه. أعدَّ المُسلمون العدَّة لِمُواجهة المغول، وخرجوا بِقيادة قُطُز نحو فلسطين، فقابلوا جيش المغول في يوم 25 رمضان 658هـ المُوافق فيه 3 أيلول (سپتمبر) 1260م في سهل عين جالوت حيثُ دارت بين الطرفان معركةٌ حامية الوطيس أُفني فيها الجيش المغولي عن بُكرة أبيه، وقُتل قائده كتبغا. ثُمَّ حرَّر المُسلمون باقي مُدن الشَّام من المغول، وأمر قُطُز بِإنزال القصاص بِالذين تعاونوا معهم، وكان في مُقدمتهم عددٌ من الأهالي المسيحيين في دمشق وغيرها، والأُمراء الأيُّوبيين، فيما عفى عن قسمٍ آخر منهم. ثُمَّ رتَّب أوضاع المُدن المُستعادة، وأعلن وحدة الشَّام ومصر مُجددًا، قبل أن يقفل ويرجع إلى القاهرة، التي أصبحت مُنذ ذلك الحين قِبلة العُلماء والأُدباء النازحين من العراق والشَّام والبلاد التي دمَّرها المغول.

كتب: مصطفى خالد