بعد خلع السلطان الصالح زين الدين حاجى حفيد الناصر محمد بن قلاوون، إنتهى حكم البيت القلاوونى ، وليس ذلك فقط، بل إنتهى أيضاً حكم المماليك البحرية.
وكان خلع هذا السلطان الطفل كان على يد الأمير سيف الدين برقوق بن أنس بن عبد الله اليلبغاوى، ليبدأ عصر دولة المماليك البرجية.
وصف دولة المماليك البرجية:
تختلف دولة المماليك البُرجيَّة – أو الشراكسة- عن البحريَّة، فى عدَّة نواحى، أوَّلها أنَّ سلاطين الدولة البُرجيَّة كانوا جميعًا شراكسة العِرق، ما عدا اثنين يرجعان إلى أصلٍ روميٍّ هُما خُشقُدم وتمربُغ، هذا إلى أنَّ مبدأ الحُكم الوراثى الذى حاول بعض سلاطين المماليك البحريَّة تطبيقه فى عنادٍ وإصرارٍ والذى نجح بِوُضوحٍ فى عصر بيت قلاوون، هذا المبدأ لا يُوجد له أثر فى عصر دولة المماليك الشراكسة،والواقع أنَّ سلاطين دولة المماليك الثانية كانوا زُعماء أو أُمراء كبار أكثر منهم سلاطين،وكان نجاح السُلطان فى مُهمَّته يتوقَّف على مدى توفيقه فى توجيه كبار الأُمراء وضرب طوائف المماليك ببعضها البعض،فإذا استطاع السُلطان الاحتفاظ بِمنصبه حتَّى وفاته، فإنَّ ابنه كان يخلفه عادةً. ولكن لِعدَّة أشهرٍ فقط حتَّى ينجلى الموقف بين كبار الأُمراء ويستطيع أحدهم أن ينفرد بِالغنيمة ،والمعروف أنَّ دولة المماليك البُرجيَّة عمَّرت أكثر من مائة وأربعة وثلاثين سنة، تعاقب على عرش السلطنة خلالها ثلاث وعُشرون سُلطانًا، ومن هؤلاء السلاطين تسعة حكموا مائة وثلاث سنوات، فى حين حكم الأربعة عشر سُلطانًا الباقون تسع سنوات فقط. أمَّا هؤلاء السلاطين التسعة الذين ارتبط بهم تاريخ دولة المماليك الشراكسة فهم: برقوق وفرج وشيخ وبرسباي وجقمق وإينال وخشقدم وقيتباي وقنصوه الغوري. وكثيرٌ من أولئك السلاطين عُرفوا بِحُبهم الأدب ومجالس العلم، كما عُرف بعضُهم بِالتقوى والورع ولا شكَّ فى أنَّ البلاد قاست كثيرًا فى عهد المماليك الشراكسة من جرَّاء المُنازعات المُستمرَّة بين طوائف المماليك، وما كان ينجم عن تلك المُنازعات من حوادث وقتال فى الشوارع، ممَّا أوجد جوًا من القلق وعدم الاستقرار فى القاهرة بِوجهٍ خاص، وزاد من شدَّة البلاء أنَّ السلاطين عجزوا فى ذلك العصر عن كبح جماح مماليكهم ممَّا جعلهم لا يجدون وسيلةً لِلإحتفاظ بِمراكزهم سوى ضرب طوائف بعضها ببعض، وبِذلك يخلوا الجو لِلسُلطان ومماليكه فيُعيثون فى الأرض فسادًا،على أنَّهُ يُلاحظ أنَّ سلاطين الدولة الشركسيَّة عملوا دائمًا على حصر تلك المُنازعات داخل دائرة داخليَّة بحتة، بحيث لم يُمكنوا قُوَّة خارجيَّة من التدخُّل فى شؤون البلاد أو الانتقاص من سيادتها.
عهد السُلالة البرقوقيَّة:
لم يمضِ على قيام برقوق فى السلطنة عامٌ واحد حتَّى حُبكت مُؤامرة لِعزله وإحلال الخليفة العبَّاسى أبو عبد الله مُحمَّد المُتوكِّل على الله بدله ولكنَّ برقوق اكتشف المُؤامرة بفضل ما بثَّهُ من العُيون والجواسيس، فكُشِف أمرُ المتآمرين وكان أغلبهم من المماليك البحريَّة التُرك، فتخلَّص من بعضهم بالنَّفى وطرد آخرين من وظائفهم، ثُمَّ عزل الخليفة المُتوكِّل وأحلَّ محله خليفة آخر هو أبو حفص عُمر بن إبراهيم الذى لُقِّب بِـ«الواثق بِالله». على أنَّ هذه الإجراءات التى قام بها برقوق لم تنفع فى حمايته من المُؤامرات المُتصلة التى دبَّرها خُصومه ضدَّه، حتَّى انتهى الأمر سنة 791هـ المُوافقة لِسنة 1389م بِقيام ثورة فى شمال الشَّام كان من نتيجتها زحف الثُوَّار على القاهرة والقبض على برقوق ونفيه إلى الكرك. ولكنَّ النزاع لم يلبث أن اشتدَّ بين قائدا الثورة، وهُما الأميران «منطاش» نائب ملطية و«يلبغا الناصري» نائب حلب، ممَّا أعطى برقوق فُرصة لإسترداد مكانته، فهرب من الكرك وجمع جيشًا بِالشَّام، وأنزل هزيمة بِأعدائه عند صرخد سنة 792هـ المُوافقة لِسنة 1390م، ثُمَّ دخل القاهرة ظافرًا حيثُ رحَّب به الأهالى واستقبلوه استقبالًا حافلًا، والتفَّ الناسُ حوله لما رأوا من سوء تدبير منطاش وتعسُّفه، وقد قضى برقوق العامين التاليين فى إخضاع بقايا الثُوَّار فى الشَّام، ولم يكد يفرغ من ذلك حتَّى داهم الدولة المملوكيَّة خطر المغول مُجددًا، هذة المرَّة بزعامة قائد جبَّار هو تيمورلنك، وكان تيمورلنك قد استولى على بغداد سنة 795هـ المُوافقة لِسنة 1393م، واستولت جُيُوشهُ على بعض المناطق الداخلة ضمن نطاق السلطنة المملوكيَّة – مثل ماردين – ممَّا جعل السُلطان برقوق يحس بِذلك الخطر ويعمل بِسُرعة على تلافيه، وكان أن استطاع برقوق أن يعمل حلفًا سريعًا بين القوى الإسلاميَّة التى أحسَّت بِخطر تيمورلنك فى الشرق الأدنى، مثل الإمارة الآرتينيَّة والقبيلة الذهبيَّة والسلطنة العُثمانيَّة ،ولم يلبث تيمورلنك أن أرسل رسالة إلى مصر يطلب فيها من برقوق تسليمه البلاد، وأرفقها بِخطابٍ من التهديد والوعيد، فامتنع برقوق عن الإستجابة لِمطالب تيمور، وردَّ عليه بنفس أُسلوبه وطرد رُسله من القاهرة، وأخذ يستعد لِحرب المغول، ولكنَّ المنية عاجلته فمات سنة 801هـ المُوافقة لِسنة 1399م قبل الشُروع فى الحرب، فترك ذلك لابنه الناصر زين الدين فرج،وقد خرج السُلطان الناصر فرج إلى الشَّام سنة 803هـ المُوافقة لِسنة 1400م؛ لِمُحاربة تيمورلنك الذى كان قد عاد وخرَّب حلب وزحف على دمشق، فوقع بين الجيشين بعض مُناوشات بِالقُرب من دمشق كان الغلب فيها للمماليك، فطلب تيمورلنك من السُلطان الصُلح فأجابه إليه. وبينما هُم يتفاوضون أثار مماليك السُلطان فتنة فى المُعسكر، وتسللوا منهُ راجعين إلى مصر بِغرض عزل السُلطان وإقامة غيره كما قيل، فخشى السُلطان على منصبه وعلى حياته، واضطرَّ أن يعود مع بقيَّة مماليكه مُسرعًا إلى القاهرة، وترك دمشق يُدافع عنها أهلها، فدخلها تيمورلنك وفعل الفظائع بِالنَّاس كما فعل بِحلب من قبل. وبعد ذلك بِفترةٍ قصيرة هُزم السُلطان العُثماني بايزيد بن مُراد أمام جحافل المغول فى أنقرة، وعندما سمع السُلطان فرج بِأخبار هذه الهزيمة رضخ لِلشُروط التى تقدَّم بها تيمورلنك، فأطلق سراح من كان لديه من أسرى، ورضى أن يسك العملة باسم تيمور، لكنَّ الأخير لم يلبث أن مات سنة 808هـ المُوافقة لِسنة 1405م دون أن يتحقق حلمه فى ضم مصر إلى ممالكه. أمَّا السُلطان فرج فقد خسر مكانته فى نُفُوس المُعاصرين نتيجة رُضوحه لِطلبات المغول وتقاعسه عن نجدة دمشق، فخلعه المماليك سنة 808هـ المُوافقة لِسنة 1405م، وولُّوا أخاه عبد العزيز بن برقوق، ثُمَّ استطاع أن يعود إلى المُلك فخرج فى عدَّة غزوات إلى الشَّام؛ لِتوطيد سُلطته، وإخضاع الثائرين من الأُمراء، لكنَّ سُوء خُلقه وقلِّة تديُّنه وتنكيله بِمماليك أبيه واستغلاله منصبه جعلت الخليفة والعُلماء يُفتون بِضرورة قتله، فاغتيل بِدمشق سنة 815هـ المُوافقة لِسنة 1412م.
ما بعد السُلالة البرقوقيَّة:
بعد مقتل الناصر فرج بن برقوق، عُهد بِالسلطنة إلى الخليفة العبَّاسي أبو الفضل العبَّاس المُستعين بِالله، ريثما تنجلى الأُمور وينتخب المماليك أحد أُمرائهم سُلطانًا. وبعد مضيّ خمسة شُهور فاز الأمير شيخ المحمودى فى حلبة المُنافسة بينه وبين أميرٍ آخر يُدعى «نوروز»، فتولَّى منصب السلطنة بعد أن تلقَّب بِلقب المُؤيَّدً،ساءت حالة الناس فى عهد المُؤيَّد شيخ نتيجة عدم قُدرته السيطرة على مماليكه، ممَّا سبَّب أضرارًا جسيمةً لِلأهالي الآمنين وقد خلف المُؤيَّد شيخ ابنه أحمد سنة 825هـ المُوافقة لِسنة 1421م تحت وصاية الأمير طُطُر، ولم يلبث بعد أشهر أن تولَّى طُطُر نفسه السلطنة لِفترةٍ قصيرة، فخلفه ابنه مُحمَّد الذى لبث فى الحُكم عدَّة أشهُر تحت وصاية الأمير برسباي. وفى سنة 825هـ المُوافقة لِسنة 1422م انتزع برسباى السلطنة لِنفسه وتلقَّب بِالسُلطان الأشرف. قاسى الناس كثيرًا خِلال سلطنة برسباي التى امتدَّت حوالى ستة عشر عامًا بعد أن أُثقل كاهلهم بِالضرائب الباهظة، وشاعت أنواع الإحتكار فى التجارة، إلَّا أنَّهُ لِشدَّة بأس هذا السُلطان لم تحدُث فى البلاد فتن فى عهده. وقد كان فى عهده فتح قبرص، حيثُ صمَّم السُلطان على القضاء على شوكة الصليبيين فى قبرص فأرسل حملةً للاستكشاف أغرقت عددًا من سُفن الفرنجة، وعادت بعددٍ من الأسرى، ثُم أرسل حملةً أُخرى دارت بينها وبين الفرنجة معركةً طاحنة قُتل فيها خلقٌ من الصليبيين، ورُفعت راية الإسلام بِقبرص، وعادت الحملة إلى مصر مُحمَّلة بِالغنائم والأسرى، ثُمَّ أرسل حملةً أُخرى، وكانت الحملة القاضية، واستطاعت جُيُوش برسباي أن تُلحق هزيمة ساحقة بالصليبيين، ودخل المسلمون مدينة الأُفقسيَّة (نيقوسية) فصلُّوا الجُمُعة فى كنيستها، وأصبحت قبرص جُملةً من بلاد المُسلمين. وقد بالغ برسباي فى فرض الضرائب على سُفن الأجانب، حتى ضجَّ هؤلاء، وهمَّت فرنسا باستدعاء جميع تُجَّارها من مصر، فخاف على تجارة البلاد من الكساد فنظر فى مطالبهم، وفى سنة 841هـ المُوافقة لِسنة 1438م مات برسباي ووُلِّى من بعده ابنه الفتى، الذى لم يستطع أن يحتفظ بِالعرش أمام نُفُوذ أقوى الأُمراء عندئذٍ وهو جقمق، الذي تولَّى السلطنة بعد قليل. وكان حُكم جقمق مُعتدلًا إذا قيس بِحُكم برسباي، كما عُرف عن جقمق تديُّنه وورعه، فحرَّم المعاصى وشُرب الخُمُور. وفى عهد جقمق تحسَّنت العلاقات بين دولة المغول التيموريَّة والدولة المملوكيَّة، وتبادل الطرفان السُفراء، كما غزا المُسلمون جزيرة رودس دون أن يتمكنوا من فتحها. وبعد وفاة جقمق تولَّى عدَّة سلاطين لم يكن لهم ذكرٌ مُهم فى التاريخ، حتى وُلِّى الأشرف سيف الدين قايتباي من سنة 872هـ المُوافقة لِسنة 1468م إلى سنة 902هـ المُوافقة لِسنة 1496م، وهو أطول سلاطين هذة الدولة حُكمًا، وكان شُجاعًا قويًّا يُحبه قادة الجيش، كما كان مُحبًا لِلعمارة، ومع هذا لم يضاهى عصره فى المباني المملوكيَّة جمالًا سوى عصر الناصر مُحمَّد بن قلاوون.
ومع وفاة السلطان سيف الدين قايتباي إقتربت نهاية دولة المماليك البرجية، وحكم المماليك بشكل عام لكونه أخر سلطان مملوكى قوى فى هذا العصر.
كتب:مصطفى خالد