في قصة كل دولة، هنالك شخصاً يكون هو الرجل القوي الذي يبني هذه الدولة إما من حكامها أو من مواليها، وفي بعض الأحيان يظهر شخصاً يعيد السيطرة على البلاد بعد أن إمتلئت بالفوضى، فكان من تاريخ خلافة بني أمية، أبو عقيل الحجاج بن يوسف الثقفي الذي وصفه الكثيرون أنه شيطان بني ثقيف، على الرغم أنه فعل ما فعل حتى تعود الدولة الإسلامية كما كانت واحدة متوحدة.
أما من تاريخ الدولة العباسية هو أبو مسلم عبد الرحمن بن مسلم الخراساني، الذي كان سفاكاً للدم أكثر من الحجاج، واستطاع أن يكون هو أكبر دعاة الدولة العباسية وأن يبدأ بثورة العباسيين على بني أمية، وأن يكون هو أحد الأسباب الرئيسية في صعود بني العباس لقمة السلطة في الدولة الإسلامية.
فمن هو؟ وكيف فعل هذا؟ هذا ما سنعرفه عندما يأخذنا “آدم” اليوم في رحلة شيقة مليئة بالأحداث الكبيرة، ولكن هناك تحذير فالقصة دموية للغاية.
الحياة المبكرة:
هو عبد الرحمن بن مسلم، وكنيته أبا إسحاق، أحد كبار قادة الثورة العباسية ودعاتها، تضاربت الروايات حول أصله، ومما زاد في غموض الأمر عدم تصريح أبي مسلم نفسه عن أصله بقوله كما يُعزى إليه: «إنّ ديني الإسلام، وولائي لآل محمد، وأنا على الطريق الصحيح»، وقيل: إنه ادّعى النسب العربي أيضاً إلا أن هذا الادعاء جاء متأخراً، أما الرواية التي يتناقلها كثير من المؤرخين؛ فتذكر أن أبا مسلم ولد في قرية ماه البصرة التي تقع بالقرب من أصفهان لأب فارسي مسلم وأم أَمَة، اضطر والده تحت ظروف مالية قاهرة إلى بيع الأَمَة، وكانت حاملاً بأبي مسلم، إلى عيسى العجلي الذي كان يمتلك بعض الأراضي في ضواحي أصفهان، فوضعت طفلاً ذكراً سُمِّي إبراهيم، ونشأ مع أولاد العجلي، وبدأ يخدمهم حينما شبّ، فعمل في جمع الأموال من مزارعهم المنتشرة في أصفهان والكوفة، وأصبح مولى لهم.
في الكوفة تعرّف لأول مرة على بعض الأتباع من الشيعة العلوية، وجذبه العمل من أجل أهل البيت، وظلّ ملازماً لأبي موسى السرّاج وعمل معه في صناعة السروج، وتلقى منه الآراء الشيعية والولاء لأهل البيت، وحينما التقى ببعض الدعاة العباسيين رأوا فيه الكفاءة والذكاء، فكسبوه إلى دعوتهم، وأخذوه معهم إلى إبراهيم بن محمد الإمام بعد أن أذن لهم بذلك أبو موسى السرّاج، وقد رأى إبراهيم الإمام فيه الكفاءة والذكاء والقدرة، فأخبر الشيعة العباسية بأنه قد «تأمل فيه شمايل الذي يقوم بهذا الأمر (أي الثورة)، فاحفظوا به…» وبدل اسمه إلى عبد الرحمن، وكنَّاه بأبي مسلم.
بقي أبو مسلم في خدمة الإمام إبراهيم يستعمله في حمل رسائله إلى خراسان والكوفة حتى سنة 128هـ/745م، وحينما اختمرت الدعوة، وضعف أمر السلطة الأموية في خراسان طلب النقباء الخراسانيون من إبراهيم الإمام إرسال من ينوب عنه من أهل البيت؛ ليمثله في خراسان، فأرسل أبا مسلم، بعد أن أخفق في إقناع عدد من الرجال مثل سليمان الخزاعي وقحطبة الطائي، وإبراهيم بن سلمه.
كان أبو مسلم على معرفة بأحوال خراسان إذ زارها عدة مرات قبل ذلك، على أن إبراهيم الإمام حين أرسل أبا مسلم هذه المرّة قال له: «أنت رجل منا أهل البيت»، تلك العبارة التي تدل على ثقته التامة به؛ والتي رفعت كثيراً من منزلته بين شخصيات خراسان العربية، وهي تُذكِّر بموقف الرسول صلى الله عليه وسلم من سلمان الفارسي الذي عده من أهل بيته.
الصعود والثورة:
لم يكن موقف سليمان الخزاعي من أبي مسلم ودياً في بادئ الأمر؛ لأنه عندما طلب من إبراهيم الإمام ممثلاً له من «أهل البيت» أي من الهاشميين ـ خاصة العباسيين ـ لم يكن يتخيل أنه سيرسل له مولى له؛ ليمثّله في خراسان، ولكن موقف أبي مسلم كان مرناً، ويدل على ذكاء حيث تقرّب من سليمان، وأعلمه بأن الإمام أوصاه بألا يعصي له أمراً، وأنه أطوع له من يمينه، ولم يكن شيعة العباسيين في قرى خراسان ومدنها يطيعون إلا سليمان الخزاعي «صاحبهم والمنظور إليه منهم»؛ ولذلك كتب إليهم سليمان يخبرهم بأمر إبراهيم الإمام وإرساله أبو مسلم الخراساني ممثلاً عنه.
اتفق أمر النقباء في الاجتماع الذي عقدوه للنظر في أمر المكان الملائم لإعلان الثورة، أن مرو أصلح مكان لإعلانها، وأُرسِل الدعاة؛ ليخبروا الشيعة بالالتقاء والتجمع في مرو في الوقت المحدد، وكان يوم عيد الفطر سنة 129هـ. فلما سمع نصر بن سيار والي خراسان بنبأ تجمع الشيعة في مرو وضواحيها؛ قرر أن يكمن لهم، ويلتقطهم جماعة جماعة، ويقضي عليهم، ولكن سليمان الخزاعي وأبا منصور كامل بن المظفر علما بالأمر، وأشارا على أبي مسلم بضرورة التجمع وإعلان الظهور قبل الموعد المحدد، وإلا «تشتت الشيعة، وفشلت الحركة»، فأعلنها أبو مسلم، ولمّا يبق من رمضان إلا خمسة أيام، وعسكر في مكان حصين تابع لسليمان الخزاعي الذي أصبح نقطة تجمع أنصار الدعوة لآل البيت، وحين انتشر خبر أبي مسلم أقبلت الشيعة من كل جانب إلى مرو، وكثر جمعهم، وسودوا ثيابهم، ونصبوا أعلامهم، ونشروا راياتهم، فصلى بهم سليمان بن كثير الخزاعي يوم العيد، وهي أول جماعة كانت لأهل الدعوة.
نجح أبو مسلم في وقت قصير في أن يسيطر على زمام الموقف في خراسان، وأن يهزم نصر بن سيار، وأن يستولي على مدينة مرو قاعدة خراسان سنة 131هـ، واضطر نصر بن سيار إلى الانسحاب تتبعه الجيوش العباسية، ولكنه مات في الطريق في قرية ساوة بنواحي الري ربيع الأول 131هـ/تشرين الأول 748م.
وفي حين كان أبو مسلم يقوم بإتمام السيطرة على خراسان، واصلت الجيوش زحفها نحو العراق بقيادة قحطبة بن شبيب، واضطر عامل العراق يزيد بن هبيرة إلى الانسحاب والتقهقر نحو مدينة واسط جنوبي العراق والتحصن بها، وفي ربيع الأول سنة 132هـ بويع أبو العباس السفاح بالخلافة في الكوفة، وهُزم الخليفة الأموي مروان بن محمد في موقعة الزاب، ثم قتل في أواخر سنة 132هـ، وزالت الدولة الأموية، ولم يبق للأمويين من مدافع سوى يزيد بن هبيرة الفزاري، فلما قُتل مروان رأى أن لا فائدة من المقاومة، فاتفق مع أبي جعفر المنصور على التسليم مقابل التأمين على حياته.
الصراع مع الخليفة أبي جعفر المنصور:
توطّدت سلطة أبي مسلم الخراساني بعد قضائه على منافسيه من رجال العرب الذين كانوا يطمحون في نيل ولاية خراسان، كما أنه خرج منتصراً بعد سحقه كثيراً من الانتفاضات التي قادها إما دعاة عباسيون انقلبوا على الثورة أو أنصار العلويين.
وأصبح أبو مسلم زعيم خراسان غير المنافس، وازدادت سلطته اتساعاً، ولم يستطع الخليفة أبو العباس عمل شيء تجاه ازدياد نفوذ أبي مسلم في الجناح الشرقي من الدولة، وبذلك بدأت بوادر التصادم في السلطة تظهر، وتتبلور تدريجياً، ولكي يتعرف الخليفة أبو العباس من قرب على نفوذ أبي مسلم ونواياه أرسل أخاه أبا جعفر إلى خراسان، والظاهر أن هذه الزيارة زادت في شكوك أبي جعفر بنوايا أبي مسلم الذي قتل سليمان بن كثير الخزاعي نقيب النقباء دون أخذ رأي أبي جعفر كما أنه لم يبد الاحترام المطلوب لأبي جعفر أخي الخليفة، حيث كان يستأذن مثلاً قبل دخوله مجلس أبي مسلم كما يروي الطبري؛ ولذلك كان رأي أبي جعفر في أبي مسلم قوله للخليفة: «لستَ خليفة ولا أمرك بشيء؛ إن تركت أبا مسلم ولم تقتله»، ولكن الخليفة رفض أن يتعرض له بسوء خوفاً من المتاعب التي قد تنجم عن قتله ولاسيما أن الدولة لازالت بحاجة إلى جهود أبي مسلم وإلى جنوده الخراسانيين الذين كانوا في ذلك الوقت دعامة الدولة العباسية.
إن حقد أبي جعفر المنصور على أبي مسلم لم يمنعه بعد أن تولى الخلافة من الاستعانة به في القضاء على عمه عبد الله بن علي الذي خرج عن طاعته، وبايع لنفسه بالخلافة في مدينة حرّان بالجزيرة.
دامت الحرب بين أبي مسلم وعبد الله بن علي نحو ستة أشهر، تمكّن فيها أبو مسلم من الانتصار على خصمه سنة 137هـ، وازداد اعتداد أبي مسلم بنفسه بعد انتصاره على عبد الله حتى إنه كان كما يروي الطبري: «يأتيه الكتاب من أمير المؤمنين، فيقرأه، ثم يلوي شدقه على سبيل السخرية منه».
أما المنصور فإنه أراد أن يُشعر أبا مسلم بأنه أحد عماله؛ فأرسل إليه رسولاً ليحصي الغنائم التي غنمها في الحرب مع عمه عبد الله، فأثار هذا غضب أبي مسلم، وقال: «أؤتمن على الأرواح، ولا أؤتمن على الأموال؟» ثم خرج من الجزيرة غاضباً متجهاً إلى خراسان. ويبدو أنه كان عازماً على الخلاف والعصيان بدليل أنه لم يمر على الخليفة في بغداد لاستئذانه في العودة كما جَرت العادة بذلك.
وفاته:
رأى المنصور أن عودة أبي مسلم إلى خراسان معناه اعتصامه بأهلها واستقلاله بحكمها، فيصعب بذلك إخضاعه والتغلب عليه، فكتب إليه أنه ولاه الشام ومصر؛ فهي خير له من خراسان، غير أن أبا مسلم فطن لغرض المنصور إذ علّق على ذلك بقوله: «يولّيني الشام ومصر، وخراسان لي»، ثم واصل سيره إلى خراسان، عندئذ لجأ المنصور إلى سياسة اللين وأساليب الدهاء، فأخذ يؤمّنه ويستميله ويسترضيه، كما أرسل إليه من يخوفه من مغبة معصية الإمام والرجوع دون إذنه، وما زال المنصور يستعمل سياسة الترغيب والتهديد حتى انخدع أبو مسلم، وذهب للقائه في مدينة المدائن التي كان المنصور قد انتقل إليها من هاشمية الكوفة.
ولما دخل عليه أبو مسلم قال له أبو جعفر: «أخبرني عن نصلين أصبتهما في متاع عبد الله بن علي؟» قال: «هذا أحدهما الذي عليَّ.» قال: «أرنيه» فانتضاه، فناوله فهزه أبو جعفر ثم وضعه تحت فراشه. وأقبل عليه يعاتبه، فقال: «أخبرني عن كتابك إلى أبي العباس تنهاه عن الموات، أردت أن تعلمنا الدين؟»
قال: «ظننت أخذه لا يحل! فكتب إليَّ فلما أتاني كتابه علمت أن أمير المؤمنين وأهل بيته معدن العلم.» قال: «فأخبرني عن تقدمك إياي في الطريق؟»
قال: «كرهت اجتماعنا على الماء فيضر ذلك بالناس فتقدمتك التماس المرفق. »
قال: «فقولك حين أتاك الخبر بموت العباس لمن أشار عليك أن تنصرف إليَّ «نقدم فنرى من رأينا» ومضيت فلا أنت أقمت حتى نلحقك ولا أنت رجعت إليَّ؟»
قال: «منعني من ذلك ما أخبرتك من طلب المرفق بالناس وقلت تقدم الكوفة فليس عليه مني خلاف. »
قال: «فجارية عبد الله بن علي، أردت أن تتخذها؟»
قال: «لا، ولكني خفت أن تضيع فحملتها في قبة ووكلت بها من يحفظها.» قال: «فمراغمتك وخروجك إلى خراسان؟»
قال: «خفت أن يكون دخلك مني شيء، فقلت آتي خراسان فأكتب إليك بعذري، وإلى ذاك قد ذهب ما في نفسك علي. »
قال: «تالله ما رأيت كاليوم قط، والله ما زدتني إلا غضبًا. »
فقال أبو مسلم: «ليس يقال هذا بعد بلائي وما كان مني؟»
فقال: «يا ابن الخبيثة، والله لو كنت أمة أو امرأة مكانك لبلغت ما بلغت، إنما عملت ما عملت في دولتنا وبريحنا، ولو كان ذلك إليك ما قطعت فتيلًا.
ألست الكاتب إليَّ تبدأ بنفسك؟ والكاتب إليَّ تخطب آمنة بنت علي وتزعم أنك أبو مسلم بن سليط بن عبد الله بن عباس؟ لقد ارتقيت — لا أم لك — مرتقى صعبًا. »
وكان أبو جعفر يقول ذلك — ويده ترتعد — فلما رأى أبو مسلم غضبه قال: «يا أمير المؤمنين، لا تدخل على نفسك هذا الغم من أجلي، فإن قدري أصغر مما بلغ منك هذا. »
وأخذ أبو مسلم يده يعركها ويقبلها ويعتذر إليه، ولكن أبا جعفر أسرع فصفق بيده، فخرج عثمان بن نهيك فضربه ضربة خفيفة بالسيف، فلم يزد على أن قطع حمائل سيفه، فأومأ أبو مسلم إلى رجل أبي جعفر يقبلها ويقول: «أنشدك الله يا أمير المؤمنين، استبقني لأعدائك.» فدفعه برجله وقال له: «لا أبقاني الله إذن، وأي عدو لي أعدى منك؟» فضربه شبيب فقطع رجله.
فقال أبو مسلم: «وا تعساه، ألا قوة ألا مغيث! »
وصاح المنصور: «اضربوه قطع الله أيديكم.»
فاعتوره القوم بالسيوف فقتلوه.
واضطربت خراسان لمقتل أبي مسلم، وظهرت من جرّاء ذلك فرق دينية غريبة عن الإسلام كان أصحابها يظهرون الإسلام، ويبطنون ديانتهم، فلما قتل أبو مسلم أعلنوا الثورة، واتخذوا من مأساته وسيلة لإحياء ديانتهم القديمة وعدّوه رمزاً لحركاتهم الدينية، إلا تم قمع هذه الثورة سريعاً.
كتب: مصطفى خالد