على مدار 7000 سنة كان المصري ومازال متعلقاً محباً لوطنه، مستعداً للتضحية بكل ما يملك في سبيل تأمينه حتى ولو كان الثمن هو حياته، ومن هنا ترسخت فكرة مقاومة المعتدين على مصر من قبل الشعب، والبحث عن أساليب للدفاع عن النفس ومواجهة كل مغتصب بكل شجاعة وإقدام، ومن هذا المنطلق تولدت لدى الشعب المصري أيضاً فكرة الدفاع الداخلي في المدن والأقاليم الحدودية، في اللحظة التي يكون الجيش منهمكاً في الدفاع بإستماتة عن الحدود الخارجية للبلاد.
وتمر الأيام لنصل إلى خمسينيات القرن الماضي، عندما إشتعلت نار المقاومة الشعبية في مواجهة الإحتلال البريطاني، ولا سيما مدن القناة، فحملت مدينة الإسماعيلية شعلة وعبئ معركة 25 يناير 1952، واستلمتها مدينة بورسعيد الباسلة في معارك العدوان الثلاثي عام 1956، وفي النهاية استلمتها مدينة السويس في مواجهة قوات جيش الدفاع الإسرائيلي التي عبرت ثغرة الدفرسوار، فكانت الملحمة التي نحتفل بذكراها اليوم.
الظروف المؤدية للمعركة:
بعد صدور قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 338، والذي من ضمن بنوده أن يتم وقف إطلاق النار بين طرفي النزاع، وبسبب وجود ثغرة الدفرسوار التي تفصل بين قوات الجيشين الثاني والثالث الميداني.
استغلت قوات جيش الدفاع الإسرائيلي هذه الثغرة وسارعت إلى عبور الضفة الغربية لقناة السويس، وبقيت تعيث في الأرض فساداً.
وقد قبل وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان وقف إطلاق النار شريطةً أن يتم إمهال القوات الإسرائيلية 36 ساعة قبل أن يتم تطبيق القرار ودخوله حيز التنفيذ يوم 24 أكتوبر 1973.
استغلت القوات الإسرائيلية هذه المهلة لكي يضعوا أيديهم على ورقة قد تفيدهم في لعبة المفاوضات المقبلة، ألا وهي دخول مدينة السويس، والتي من الناحية العسكرية لا توجد أي أهمية إستراتيجية لها، ولكن لها في نفوس الشعب المصري الكثير من الحب والإرتباط كونها مدينة تاريخية على عكس مدن القناة الأخرى الحديثة نسبياً.
وستكون أهمية هذه العملية كبيرة للغاية، حيث ستتمكن قوات الثغرة من تطويق الجيش الثالث الميداني، ومنع وصول أي إمدادات له.
أما في الناحية الأخرى في مدينة السويس، قد تهدم حوالي 80 % من إجمالي مباني المدينة، وقد تم تهجير الكثير من سكانها منذ حرب الإستنزاف، ولم يتبقى في المدينة سوى القليل من السكان، وبعض الموظفين الحكوميين، رجال قسم شرطة الأربعين، والفرقة 19 مشاة.
بدت المقاومة بالنسبة لقوات الثغرة ضعيفة ويمكن أن لا تحدث أبداً ويسهل سقوط المدينة في أيديهم.
استدعى الجنرال شموئيل جونين الجنرال أدان، وسأله إذا كان بمقدور قوات الثغرة أن تسيطر على مدينة السويس أو من عدمه، فأجاب أدان أن ذلك يعتمد على قوة المقاومة في المدينة، ليرد جونين بجملة مشهورة: إذا كانت بئر سبع فامضي قدماً، وإذا كانت ستالينغراد فلا تفعل، وسار أدان بقواته إلى مدينة السويس، معتقداً أنه لن يجد أي مقاومة أثناء دخوله للمدينة.
الإنفجار:
نظراً لعدم وجود فكرة احتمال أن هناك مقاومة منتظرة وصولهم، كان لواء الدبابات يسير في طابور واحد وكان بعض رجال الدبابات يجلسون فوق الأبراج كما لو كانوا بعرض عسكري.
وهنا كانت الصدمة فقد كانت المقاومة على أهبة الإستعداد وتقول أهلاً بالمعارك.
وامتدت كتيبة دبابات يقودها المقدم ناحوم زاكين لأكثر من ميل، ودخلت الشارع الرئيسي، بكل سهولة ويسر حيث كان من المتفق عليه أنه عندما تصل قوات الثغرة لنقطة معينة في مفترق طرق بحي الأربعين، يتم مهاجمة دبابة القيادة ثم تدمير الدبابة الرابعة في الصف، وبهذا تنطلق الإشارة لباقي رجال المقاومة البواسل بأسلحتهم الخفيفة والقنابل اليدوية لمهاجمة باقي الدبابات، ودب الفزع في نفس القوات الإسرائيلية فباتوا يحتمون في المباني المجاورة،
وفي غضون دقائق قتل 20 قائداً للدبابات الإسرائيلية من أصل 24 قائد.
حصار قسم شرطة:
مع تراجع قوات المظليين، تعرضوا لإطلاق نار كثيف ولم يميزوا من أين تأتي النيران، مما دفعهم للإحتماء في المباني المجاورة، فكان حصار قسم شرطة الأربعين، وفي فترة وجيزة للغاية إستطاعت القوات اللإسرائيلية أن تدخل قسم الشرطة، واستشهد إثنان من رجال القسم، وتم احتجاز الباقي وعددهم ثمانية، وحاصر رجال المقاومة قسم الشرطة، وكان الإطلاق كثيف جداً بين الجانبين، فلم تستطع باقي قوات الثغرة أن تفك حصارهم ولم يستطع رجال المقاومة أن يقتحموا القسم.
الهروب الكبير:
مع حلول الظلام، قرر أدان أن يسحب قواته فبدأ بالمدرعات، ثم أمر المظليين أن ينسحبوا سيراً على الأقدام، وقد اقتنع الكثير من المظليين أنهم لن يتم إنقاذهم أبداً، وأن المصريين لن يتخذوا منهم أسرى، فأقدم بعضاً منهم على الإنتحار.
أما الباقي فقد قرروا الخروج مع تلقيهم الأوامر بالإنسحاب، فقام المصابون حتى يروا إذا كان بالإمكان أن يسيروا أو من عدمه، أما من استطاعوا السير فهؤلاء كان يتم مساعدتهم، وفي خلال عشر دقائق وتحت غطاء مدفعي إسرائيلي، استطاعوا أن ينسحبوا.
وخسرت القوات الإسرائيلية 80 قتيلاً و120 جريحاً، وأكثر من 15 دبابة ومدرعة.
للذكرى:
تخليداً لهذه الملحمة العظيمة أعلنت الدولة المصرية أن يوم 26 من شهر أكتوبر كل عام هو العيد الرسمي لمحافظة السويس، التي شهدت هذه المعركة الطاحنة، وأعطت لنا درساً في الصمود أمام الأهوال
تحية لأهالي مدينة السويس الكرام أهل الوطنية والتضحية والمقاومة.
كتب: مصطفى خالد