هذا الحصن الحصين (الأزهر الشريف) الذي تشهد له كل لبنة يُشَدُّ بها رباط أعمدته المتينة بما جرت عليه من الشهور والفصول والدهور التي بها ارتسمت على ذرارة آثاره الخالدة رسومُ الحِكم الدينيّة والدنيوية بصياغة ألماسية( رسمها أمهر رُساّم الفطرة بقلم الوسطية و بمداد المعرفة الصحيحة السليمة الذي لم تقطر فيه قط قطرات زيت الإفراط والتفريط للعيون الباحثة عن حقيقة الكون المكنون عن المبصرين و الظاهر للناظرين).
هذا الحصن صار طورا لكثير من الذين في قلوبهم شوق موسى ( عليه الصلاة والسلام) لرؤية حقيقة الحق و ما لاحق البشر عنها من الشك ، فولّوا شطرهم إلى هذا الطور و عكفوا فيه ميقاتا فتتجلى لبصيرتهم معقدات المعتقدات و أغرب الابتكارات في شتى المجالات التي تعج بها كنوز المكتبات، و ما برح أحد منهم مكانه إلا و خلف هارون لقومهم المتبادر إلى الشر و المتباعد عن الخير .
واعلموا أن محجَّة لُجّة الراغب إليه والعاكف فيه كانت و لا تزال واحدة مهما تتغير وجوه العصور بين الظلمات والنور و هي معراج بصيرتهم التي تُهدي إليها تحائف الربانية لكل مخاليق و خاصة للإنسانية.
و لْيَكُن بوعيكم هذا بأن عبّاد الفكر والمعرفة لبّوا كلما أُذِّن في هذا الحصن أذان المعرفة والتربية والاصلاح من كل بقاع الأرض شرقاً وغرباً.
هذا ابن خلدون المؤسس لعلم الاجتماع و المصدر من مصادر التاريخ والاقتصاد لبىّ دعوته و أدى صلاة الروح الظاهرة و الجسد الخفي في هذا الحصن حتى ارتحل من النهاية إلى اللانهاية.
الوجود الباطن لهذا الحصن لم يبلَ (يفنى) و لم يدرس قط، فعلى مر العصور يزداد حسنه الخلاب و جماله الجذاب بطلاوة طلاها عليه المحدثون والفقهاء والفلاسفة الدينية والأدباء لعيون الأرواح الظاهرة و لقلوب الأجساد الخفية.
لنقل، لا بل لنعترف أن هذا الحصن كمعمل تعالج فيه أمراض الكلمات المكلومة و المعاني اللامفهومة.
و أطباء هذا المعمل أشهرهم في العالم و أمهرهم فيه، فلم تتلمس أيديهم الأرواح الظاهرة والأجساد الخفية إلا و وصلوا إلى كنه العلة، فحللوا كل جزء من الوبيئة التي في العقول وديعة من قبل الأبالسة الملعونة المنفية من الطبيعة.
فمنهم من عملوا في معمل قواعد اللغة واللغة ،وحللوا كل معقدات الإسم، و الفعل، والحرف، ثم ضربوا بمطرقة الفهم كل صدف أبيات العرب الراقية النادرة و أخرجوا منه درر المعاني المستورة، فشيخ الأزهر الشيخ مرتضى الزبيدي كان واحد منهم.
و منهم من عملوا في معمل الحديث الشريف فحللوا كل جزء، و جرّدوه عن الالتباس والتدليس والموضوعات و نفضوا عن وجه الحديث النير غبار الخرافات و المزيفات الذي أحدثته رياح اللاعقلانية، فشيخ الشأن والبيان ابن حجر العسقلاني كان واحد منهم من كرس حياته لخدمة الحديث الشريف حتى آخر لحظاته .
و منهم من عملوا في معمل التفسير فسمح الله لأيديهم أن تصل إلى جيوب الكلمات الربانية و تناولوا منها ما شاء الله من تعبيرات روحانية و عقلانية، فشيخ الأزهر الشيخ الطنطاوي، و أشهر مفسر القرآن الكريم في العصر الحديث الشيخ متولي الشعراوي كانا ممن ندر وجودهم في هذا المجال.
و في هذا الحصن فتح كل معمل من معامل العلمية والتربوية عند العوز في كل زمن من الأزمنة حتى الآن.
و من منا يستطيع ان ينسى الزهو والازدهار لهذا الحصن في القرن التاسع عشر والعشرين كأنهما قرون المولدين (أي الدولة العباسية) في تاريخ الاسلام إلى حد ما، فلو قلنا إن هذين القرنين لهذا الحصن الحصين كانتا كالرابعة عشر لكل مستهل الشهر من الهجرية النبوية، و هذا الحصن كان كالبدر التم في سماء العلم، لما كنا من المبالغين في تقريظ هذا الحصن الحصين ، بل نكون نحن للحق من المعترفين.
من الممكن لم يستطع لسان قلمي اللاثغ أن يفصح بما يريد بيانه، فأود منكم أن يستمعوا إليه كما تستمع الأم الحنون إلى طفلها الصغير بمنتهى الشوق أي أحر من الجمرة و تستخرج معان نادرة و بديعة من الكلمات المتقطعة المتساقطة على لسانه الطاهر الناعم .
فيروز محمد الهندي