في زمن مليء بالأحداث السياسية المضطربة داخل العالم الإسلامي، ظهرت طائفة من رحم المذهب الإسماعيلي الباطني، هذه الطائفة قادت عمليات في غاية الحساسية وفي قلب صفوف أعدائها ألا وهي طائفة الحشاشين الذين استطاعوا أن يغتالوا كل منافسيهم تقريبًا.
وفي ظل الأحداث السياسية المضطربة داخل العالم الإسلامي، تواجدت خلافتان، الأولى عباسية معروفة ولها الأحقية في اتباع المسلمين لها، والأخرى فاطمية عبيدية ومشكوك في أصلها ونسبها، التي تمتلك أفكارًا باطنية منافية للعقل والدين، في هذا الزمن تواجد كذلك خنجرًا أوروبيًا والذي أحدث داخل العالم الإسلامي جرحًا عميقًا واستطاع أن يكون دولة في إحدى أطهر وأنفس وأقدس البقاع العربية، ألا وهو بيت المقدس.
ويصدقكم (آدم) القول أنه الآن ينتابه القشعريرة بينما يستعد لكي يقص لنا هذه القصة الكبيرة المليئة بالأحداث والدماء على حد سواء.
رحلة طائفة الحشاشين (الجزء الثاني) في الشام:
بسبب تضييق الخناق على شيخ الجبل الحسن الصباح وأتباعه، قرر شيخ الجبل أن يرسل بعضًا من أتباعه إلى أرض الشام، حيث تتوسط الشام الطريق إلى الخلافة العباسية، ونظيرتها الخلافة الفاطمية العبيدية، وأيضًا لتواجد الاحتلال الصليبي للمدن الساحلية الشامية، وتكوينهم لمملكة وثلاث إمارات، لذلك يعتبر الشام البيئة المناسبة لزرع معتقدات طائفة الحشاشين، واستقطاب الأتباع الجدد.
ومرت طائفة الحشاشين بالشام بثلاث مراحل مليئة بالأحداث المثيرة، توالت بها الهزائم والانتصارات، فكان منها ما يلي:
-
المرحلة الأولى:
بعد وصول أتباع شيخ الجبل إلى الشام، قرروا أن يتخذوا مدينة حلب كمقر لنشر دعوتهم لكونها ثاني أكبر المدن الشامية بعد دمشق، وهذا ولم يكن يحدث هذا إلا بمباركة حاكمها فخر الملك رضوان بن تتش السلجوقي، على الرغم من معرفته بعداء عائلته مع هذه الطائفة، ولكنه كان بحاجة ماسة إلى حليف يستطيع أن يواجه به جميع المؤامرات التي تدبر ضده من قبل خصومه، ورأى في أسعد أبو القنج الباطني المعروف بالحكيم المنجم وتابعه أبو طاهر الصائغ العجمي بممارسة شعائرهم والدعوة لمذهبهم.
اقرأ أيضًا: طائفة الحشاشين.. جذورهم الإسماعيلية وتحدياتهم السياسية
وكانت لحلب مزايا كثيرة تجذب طائفة الحشاشين فالمدينة يسكنها عدد كبير من الشيعة الاثنا عشرية وهي مجاورة لمناطق الشيعة الأخرى في جبل سماق وجبل البهرة، وقد كان قاضي حلب فضل الله الزوزني العجمي الحنفي أول ضحاياهم حيث كان يهاجم معتقداتهم، ثم قام الحشاشون بأول عمليات الاغتيال المثيرة في 1103م عندما اغتال اثنان من طائفة الحشاشين، متنكرين بثياب المتصوفين، أمير حمص جناح الدولة حسين أثناء صلاة الجمعة الذي كان شديد العداء لفخر الملك رضوان.
وبعد مقتل جناح الدولة تولى زعامة طائفة الحشاشين أبو طاهر الصائغ، الذي كان متحمسًا لمزيد من الانتشار الإسماعيلي في سوريا، ففي سنة 1105م شن الإسماعيليون أول هجوم لهم على حصن أفاميا حيث تمكنوا من الاستيلاء عليها وقتل أميرها خلف بن ملاعب في 1106م، وسرعان ما وصل أبو طاهر الصائغ لتولي القيادة بنفسه.
وظلت أفاميا بأيديهم حتى قام الأمير تانكرد حاكم إمارة أنطاكية الصليبية بمحاصرة المدينة وارغمها على الاستسلام في سبتمبر 1106م، فقتلوا أبو القنج السرميني وأطلقوا سراح أبو طاهر وبعض زملائه بعد فترة ليعودا إلى حلب مرة أخرى، وفي عام 1113م أحرزت الطائفة أكثر ضرباتها طموحًا حتى ذاك الحين باغتيال أمير الموصل الأمير مودود أثناء تواجده في دمشق، إلا أن سطوتهم لم تدم طويلًا، فقد توفي أكثر المدافعين عن طائفة الحشاشين رضوان بن تتش يوم 10 ديسمبر 1113م ليتولى ابنه ألب أرسلان الحكم.
اتبع ألب أرسلان سياسة أبوه بالنسبة للتعامل مع طائفة الحشاشين في حلب ولكنه قد وصل إليه خطاب من السلطان السلجوقي محمد بن ملكشاه يحذره من خطر هذه الطائفة ويدعوه إلى تدميرهم، وقام ابن البديع قائد الشرطة للمدينة بالتقاط المبادرة وحرض الحاكم على النيل من طائفة الحشاشين، وبالفعل قام الحاكم بشن هجوم لم يتوقعه أتباع شيخ الجبل في المدينة فاعتقل أبو طاهر وزعماء الطائفة وقتلوا جميعًا وتمكن آخرون من الفرار؛ لتنتهي بهذه النكسة أولى مراحل الكفاح الإسماعيلي في بلاد الشام.
-
المرحلة الثانية:
بالرغم من النكسة في حلب إلا أن الإسماعيليين الجدد لم يتراجعوا عن طموحهم في نشر دعوتهم، ففي عام 1114م قامت قوة مكونة من مائة إسماعيلي بالاستيلاء على معقل شيزار بعد هجوم مفاجئ، بينما كان الحاكم وجنوده في مكان بعيد يشاهدون احتفالات المسيحيين بعيد الفصح، وقد تعرض الحشاشون فور ذلك لهجوم مضاد اوقع بهم الهزيمة، وحتى في حلب استطاع الإسماعيليون بالرغم من كارثة 1113م أن يحفظوا لنفسهم بموضع قدم.
ففي عام 1119م تم طرد عدوهم ابن البديع من المدينة وهرب إلى ماردين وكان الحشاشون في انتظاره وهو يعبر الفرات فقتلوه، تمكن الخليفة أبو طاهر المعدوم في حلب (بهرام) من نقل النشاط الإسماعيلي جنوبًا وسرعان ما بدأ يلعب دورًا نشطًا في شئون دمشق، ففي عام 1126م/520هـ حدث أول تعاون بين طائفة الحشاشين والحاكم التركي لدمشق ظاهر الدين طغتكين حيث اشتركوا سويا في هجوم فاشل شن ضد حصون الصليبيين.
اقرأ أيضًا: دولة المماليك.. حكاية السلطة والفساد الذي قاد إلى السقوط
وقام الحاكم الدمشقي بعد ذلك بمنح الإسماعيليون قلعة بانياس على الحدود مع المملكة الصليبية، كما حصلوا على في دمشق على على بناية اسموها (بيت الدعوة) واتخذوها مقرا لهم، وفي بانياس أعاد بهرام بناء القلعة وبدأ حملة من التوسع في المناطق المجاورة، وكان وادي التيم في إقليم الحصيبة يسكنها خليط من الدروز والمسيحيين وكان يبدو ملائمًا للتوسع الإسماعيلي.
لكن أثناء محاولة الإسماعيليين السيطرة على المنطقة نشب قتال حاد مع سكانها أدى إلى مقتل الزعيم بهرام وانسحاب الإسماعيليين، ليتولى الزعامة بعده (إسماعيل) وقد سار على سياسة سلفه، واستمر الدعم الدمشقي له وخاصة من الوزير المزرجاني، ولكن سرعان ما جاءت النهاية ففي عام 1128م حيث توفي طغتكين وحدثت حملة رد فعل تشبه تلك التي حدثت بعد وفاة فخر الملك رضوان في حلب.
وجاءت المبادرة من قبل مفرج بن الحسن الصوفي، الذي كان شديد العداء للإسماعيليين، وقائد شرطة المدينة بتحريض الحاكم بوري ابن طغتكين على توجيه ضربة قاضية للحشاشين والغدر بهم، ففي يوم الأربعاء 4 ستمبر 1129م حدثت هذه الضربة، حيث اغتيل الوزير المزرجاني (باوامر من بوري) وهو جالس في مجلسه يستقبل الزوار وفصل رأسه عن جسده.
وما إن انتشر الخبر حتى قام عسكر المدينة والمواطنين على الحشاشين قتلوا ونهبوا حتى صباح اليوم التالي وأبيد إسماعيليو المدينة ولم يعرف عدد الذين قتلوا بالضبط إلا أن أحد المؤرخين قدر العدد بـ 20 ألف قتيل، وتحقق إسماعيل إن موقفه في بانياس أصبح بائسًا فسلم القلعة للإفرنج مقابل إعطاءه واتباعه الملاذ الآمن ففر ومن معه في أراضيهم حيث توفي في عام 1130م.
وقد اتخذ المسئولين عن هذه المجزرة الكثير من الاحتياطات لحماية أنفسهم من انتقام طائفة الحشاشين؛ فارتدوا شباك من الأزرد وأحاطوا أنفسهم بالحراس على مدار الساعة، ولكن بدون جدوى، إذ لم تلبث إن جاءت الضربة من مركز الفرقة في ألموت، ففي 7 مايو 1131م تمكن اثنين من طائفة الحشاشين، متنكرين بزي جنديين تركيين، من الدخول لقصر بوري والانقضاض بشكل السريع عليه وطعنه بالخناجر ليموت متأثرًا بجراحه.
اقرأ أيضًا: ماذا قدم السلطان عبد الحميد الثاني للقدس وفلسطين؟
-
المرحلة الثالثة:
خلال السنوات العشرين التالية حدثت المرحلة الثالثة والناجحة التي استطاع فيها الحشاشون الحصول على قواعد قلاعية لهم في سوريا وكانت هذه المرة في جبل البهرة، ففي عام 1132م اشترت طائفة الحشاشون قلعة القدموس، وفي عام 1136م تمكنت طائفة الحشاشون من طرد الأفرنج من الخريبة وسيطروا عليها، وفي عام 1140م تمكنت طائفة الحشاشين من الاستيلاء على قلعة مصيف التي ستصبح لاحقًا أهم معاقلهم وتمكنوا بعدها من السيطرة على قلاع أخرى وهي الخوابي والرصافة والعليقة والمنيقة، وتبقى علاقات طائفة الحشاشين خلال هذه الفترة غامضة بعض الشيء.
غير أن من المعروف ان جماعة من الإسماعيليين النزاريين يقودهم شخص اسمه علي بن الوفا قد تعاونوا مع ريموند الأنطاكي في حملته على أمير حلب نور الدين زنكي، الذي أثار عداوة الإسماعيليين بسياسته القمعية للشيعة، وقد فقد علي وريموند كلاهما حياتهما على أرض معركة أنب سنة 1149م.
وعقب ذلك بسنوات قليلة في عام 1152م/547هـ أقدمت طائفة الحشاشون على اغتيال الكونت ريموند الثاني من طرابلس الذي كان الضحية الأفرنجي الأول الذي يقضي على يد طائفة الحشاشين، وقد قام ملك القدس بلدوين الثالث برد هائج بذبح أعداد كبيرة من المسلمين، وقام فرسان الهيكل بغزو أراضي طائفة الحشاشين وأجبروهم بعد سلسلة من الهجمات على دفع أتاوة سنوية بلغت زهاء 2000 قطعة ذهبية.
ولكن ستظهر شخصية جديدة في الساحة السياسية ستتزعم طائفة الحشاشين، وستقلب جميع الموازين في الشام، وسنتعرف عليه في الجزء القادم.
اقرأ أيضًا: ذكرى وفاة السلطان سليمان القانوني.. أعظم سلاطين الدولة العثمانية
كتب: مصطفى خالد.