دعوته فأبى؛ ألححت عليه فتمنّع؛ رجوته بشدة فهمّ بارتداء قبعته ثم أدبر وكاد يتولى همست في أذنيه؛ لم أرك بتلك العصبية من ذي قبل، فأعاد نزع قبعته من فوق رأسه مبديا رغبته في حفلة سمر، قال بصوت متحشرج : لولا منزلتك عندي لكان لي معك شأن آخر ، تحملت فظاظته على غضاضة لعل المياه بيننا تعود إلى مجاريها، ويعم الودّ معانيها ، قلت له ما يليق بالرفقاء أن يكون التعامل بينهما بهذا الجفاء ، ما كاد يسمع لفظة جفاء حتى استشاط غضبا ، تمنيت لو صح لي أن أعدّ له كوبا من الليمون المخلوط بالنعاع ولكن أنى لي هذا وهو كائن حريص على ألا يغير مشروبه منذ مئات السنين إلا بقدر معلوم.

سألني معاتبا : منذ متى لم نلتق رغم علمك بأنه لا مصدر للمحبة سواك ؟
رفعت أناملي لأحك شعري واهما إياه بأنني أفتش في ذاكرتي كي أجد جوابا .
انتفخت أوداجه وعاد إلى نبرته الحادة ؛ لا يليق بك أن تخدعني وأنا رفيقك منذ نعومة أظفارك ؟! قاطعته سريعا : أنا ! أخادعك أنت ! وهل أجرؤ على ذلك؟ ، لقد عاد بي إلى الأيام الخوالي حين كان لقاؤنا اليومي يبدأ مع تباشير الصباح ويمتد بنا إلى بهيم الليل المظلم لا ينقطع سوى لأتناول طعامي أو ليعدل بعض هندامه أو يتزود ببعض زاده.

كم كان فرحي يلامس عنان السماء حين يطاوعني بسلاسة لأداء واجباتي المدرسية ، أو لكتابة رسالة عذرية لبنت جيراننا عندما كنت مواظبا على حفظ أشعار ابن الملوح ، أو لنظم قصيدة حينما ظننت أني من فحول الشعراء ، لطالما ظل عوني وسندي في الاختبارات التي كانت سببا في حصولي على درجاتي العلمية وتوفيقي في حياتي العملية ، بل أكثر من ذلك فقد حصلت على توقيعه حين اقترنت بزوجتي الغالية ، لم يتأخر لحظة عني ؛ لا يحلو له الدفء والطمأنينة إلا بين أصابعي لم تلفحه حرارة صيف أو يثنيه برد شتاء قارس ، لم يتعلل يوما عن مرافقتي .. لم يعتذر أو يتعذر ، ما قال لا قط إلا حين ألزمه بكتابتها .

اليوم يشكو لي هو وأترابه مرّ الشكوى مما حل بهم .. لقد أصبحوا بلا ونيس أو جليس .. نادرا ما يستمتعون بمرافقتي وقد كانوا لأعوام طوال وساما على صدري .. يطلون بقبعتهم الزرقاء أو الحمراء من أعلى قميصي ، يعاملون باحترام لا نظير له ، يكفيهم فخرا أنهم اسم سورة من كتاب الله ‘ وقد أقسم به ربي في صدر تلك السورة ( نون والقلم وما يسطرون ) وفي الحديث الصحيح ( إن أول ما خلق الله القلم ،فقال له اكتب ‘ قال : رب وماذا أكتب ؟ قال : اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة ) .

هذا حال صاحبنا اليوم قارب على التقاعد الإجباري بعد أن ملأ الدنيا بمداده علما ونورا، سطر العديد من الكلمات التي ارتقت بالبشرية من الجهالة إلى النهضة والعلو، رحلة كفاح استمرت قرونا عبر الأمم والقرون بلغات شتى. سطر نهضة حضارات وزوال أخرى … اليوم يُنحّى جانبا دون جرم أو إثم ، فقد أُعلنت عليه حربا شعواء لا هوادة فيها عبر لوحة مفاتيح أو كتابة باللمس أوكتابة بالهمس في أذن تلك الأجهزة الذكية فتحيل النص المسموع فورا إلى نص مكتوب .

لا تحزن يا صديقي العزيز؛ أشعر تماما بمعاناتك وأحاول جاهدا بين حين وآخر أن أعيدك إلى أناملي كي تنعم بدفئها وأفوز بقدرتك الساحرة على استخراج مكنون أفكاري وتجسيدها في قوالب شتى ، قلمي الحبيبي رفيق دربي لا أقوى على وعدك بأن نعود إلى سابق عهدنا من مصاحبة وثيقة لا تنفك عراها ؛ ولكن جلّ ما أملك أن أعتذر لك عما حدث مني ومن بني البشر الذين كادوا يهجرونك مكتفين بصناعتك من فضة أو ذهب لتصبح هدية قيمة في علبة من قطيفة حمراء أو زرقاء قلّما تُفتح لك كي تستنشق عبير الحرية عبر سكب مدادك برشاقة ولين كما كنت دائما.. عذرا رفيق دربي فقد كتبت حواري هذا من خلال لوحة مفاتيح جهازي الذكي

كتب/ هشام أحمد