عيد الشرطة المصرية ذكرى ملحمة وطنية وكفاح ضد الاستعمار

images 3

عيد الشرطة المصرية ذكرى ملحمة وطنية وكفاح ضد الاستعمار

في زمن كانت مصر فيها من زمرة البلاد المستعمرة من قبل الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس، أي بريطانيا العظمى، كان النضال مستمراً دون توقف كي تنال مصر حريتها من الظلم والاستعمار، وقدمت من أبنائها شهداء في سبيل الحق، والحرية، والواجب، وكان أبناء مصر لا يضنون على بلادهم أن يقدموا حياتهم في سبيل الوطن، معلنين دستورهم، ألا هو الاستقلال التام أو الموت الزؤام.

اشتعلت شعلة الجهاد في سبيل والوطن أكثر فأكثر خلال العهد الأخير من الاستعمار، وحدثت بعض المناوشات بين المصريين والجيش البريطاني، ولا سيما في منطقة القنال، هذه القطعة الغالية في قلب كل مصري التي جرى فيها دماء أجدادهم قبل أن تفيض بالماء أثناء حفرها ومن تلك المناوشات التي جرت، كانت معركة خاصة جسدت معنى التضحية والفداء داخل النفس المصرية، تلك المعركة هي معركة الإسماعيلية في يوم 25 يناير عام 1952، التي ضحى فيها رجال شرطة الإسماعيلية بأنفسهم، بعد معركة طاحنة أجبرت البريطانيين على رفع قبعاتهم، في مشهد لا يحدث كل يوم، ولا في كل زمان.

الأسباب:

كانت منطقة القناة تحت سيطرة القوات البريطانية بمقتضى اتفاقية 1936 والتي بمقتضاها تنسحب القوات البريطانية إلى محافظات القناة فقط دون أى شبر فى القطر المصري، فلجأ المصريون إلى تنفيذ هجمات فدائية ضد القوات البريطانية داخل منطقة القناة، وكبدتها خسائر بشرية ومادية ومعنوية فادحة؛ وكان يتم ذلك بالتنسيق مع أجهزة الدولة فى ذلك الوقت.

وصلت قمة التوتر بين مصر وبريطانيا إلى حد مرتفع عندما اشتدت أعمال التخريب والأنشطة الفدائية ضد معسكراتهم وجنودهم وضباطهم في منطقة القنال فقد كانت الخسائر البريطانية نتيجة العمليات الفدائية فادحة، خاصة في الفترة الأولى، وكذلك أدى انسحاب العمال المصريين من العمل في معسكرات الإنجليز إلى وضع القوات البريطانية في منطقة القناة في حرج شديد.

وحينما أعلنت الحكومة عن فتح مكاتب لتسجيل أسماء عمال المعسكرات الراغبين في ترك عملهم مساهمةً في الكفاح الوطني سجل 91572 عاملاً أسماءهم في الفترة من 16 أكتوبر 1951 وحتى 30 من نوفمبر 1951 – كما توقف المتعهدون عن توريد الخضراوات واللحوم والمستلزمات الأخرى الضرورية لإعاشة 80 ثمانين ألف جندي وضابط بريطاني.

وقد أقدمت القوات البريطانية على مغامرة أخرى لا تقل رعونة أو استفزازًا عن محاولاتها السابقة لإهانة الحكومة وإذلالها حتى ترجع عن قرارها بإلغاء المعاهدة، ففي صباح يوم الجمعة 25 يناير 1952 استدعى الجنرال أكسهام، القائد البريطاني بمنطقة القناة، ضابط الاتصال المصري، وسلمه إنذارًا بأن تسلم قوات الشرطة المصرية بالإسماعيلية أسلحتها للقوات البريطانية، وتجلو عن دار المحافظة والثكنات، وترحل عن منطقة القناة كلها. وتنسحب إلى القاهرة بدعوى أنها مركز اختفاء الفدائيين المصريين المكافحين ضد قواته في منطقة القنال.

تلقى مكتب فؤاد باشا سراج الدين وزير الداخلية مكالمة على التليفون: من يا أفندم؟ 
اللواء أحمد رائف: أنا اللواء أحمد رائف قائد بلوكات النظام فى الإسماعيلية.
المكتب: حاضر يا أفندم
اللواء أحمد رائف: معالى الوزير صباح الخير
فؤاد سراج الدين باشا: صباح النور
اللواء أحمد رائف: يا أفندم قوات الاحتلال البريطاني وجهت لنا إنذارا برحيل قوات البوليس عن مدينة الإسماعيلية ونحن يا أفندم رافضون وقررنا المقاومة.
فؤاد سراج الدين باشا: هل تقدرون يا أحمد؟
اللواء أحمد رائف: يا أفندم لن نترك الإسماعيلية حتى لو ضحينا بأخر نفس فينا..
فؤاد سراج الدين باشا: ربنا معاكم استمروا في المقاومة”

ورفضت قوات الشرطة المصرية الإنذار البريطاني وأبلغته إلى وزير الداخلية الوفدي محمد فؤاد سراج الدين باشا الذي أقر موقفها، وطلب منها الصمود والمقاومة وعدم الاستسلام.

وكان الفدائيون ينسقون مع رجال الشرطة لشن هجمات فعالة وقاسمة ضد القوات البريطانية، وهو ما فطن إليه البريطانيون؛ حيث قاموا بترحيل المصريين الذين كانوا يسكنون الحي البلدي فى الإسماعيلية، بينما كانوا هم يسكنون الحي الأفرنجى؛ وذلك للحد من عملياتهم البطولية ضد قواتهم، ولكن ذلك لم يؤثر على الفدائيين وزادت هجماتهم شراسة، وذلك بالتنسيق مع قوات الشرطة المصرية.

وعندما علمت القوات البريطانية بأن رجال الشرطة يساعدون الفدائيين، قررت خروج كافة أفراد الشرطة المصرية من مدن القناة، على أن يكون ذلك فى فجر يوم 25 يناير 1952، وفوجئ رجال الشرطة بعد وصولهم إلى مقر عملهم فى مبنى محافظة الإسماعيلية، بقوات الاحتلال البريطانى تطالب اليوزباشى مصطفى رفعت قائد بلوكات النظام المتواجدة بمبنى محافظة الإسماعيلية بإخلاء مبنى المحافظة خلال 5 دقائق، وترك أسلحتهم بداخل المبنى، وحذروهم بمهاجمة المبنى فى حالة عدم استجابتهم للتعليمات.

لقد تخيل الاحتلال البريطاني أن رجال الشرطة سيخافون على حياتهم، ويتركون سلاحهم ويهربون، حفاظا على أرواحهم، ولكنهم فوجئوا ببطولة سطرت فى تاريخ مصر المشرف بأحرف من نور؛ حيث رفض اليوزباشى مصطفى رفعت الانسحاب وترك مبنى المحافظة.

وقال لقائد قوات الاحتلال أكسهام (إذا أنت لم تأخذ قواتك من حول المبنى.. سأبدأ أنا الضرب، لأن تلك أرضي ، وأنت الذي يجب أن ترحل منها ليس انا.. وإذا أردتم المبنى فلن تدخلوه الا ونحن جثث)، ثم تركه وفقد الجنرال أكسهام أعصابه فقامت قواته ودباباته وعرباته المصفحة بمحاصرة قسم شرطة الإسماعيلية لنفس الدعوى بعد أن أرسل إنذارا لمأمور قسم الشرطة يطلب فيه منه تسليم أسلحة جنوده وعساكره، غير أن ضباط وجنود البوليس “الشرطة” رفضوا قبول هذا الإنذار.

ودخل مبنى المحافظة وتحدث إلى جنوده وزميله اليوزباشى عبد المسيح، وروى لهم ما دار بينه وبين اكسهام، فما كان منهم إلا أن أيدوا قراره بعدم إخلاء المبنى، وقرروا مواجهة قوات الاحتلال على الرغم من عدم التكافؤ الواضح فى التسليح؛ حيث كانت قوات الاحتلال تحاصر المبنى بالدبابات وأسلحة متطورة شملت بنادق ورشاشات وقنابل، فيما لا يملك رجال الشرطة سوى بنادق قديمة نوعا ما.

وبدأت المعركة من خلال قيام القوات البريطانية بإطلاق قذيفة دبابة أدت إلى تدمير غرفة الاتصال “السويتش” بالمبنى، وأسفر عن استشهاد عامل التليفون، لتبدأ المعركة بقوة، والتى شهدت فى بدايتها إصابة العشرات من رجال الشرطة واستشهاد آخرين، فخرج اليوزباشى مصطفى رفعت إلى الضابط البريطاني المسؤول عن القوات المحاصرة للمبنى فى مشهد يعكس مدى الجسارة والشجاعة المصرية.

وتوقفت الاشتباكات ظناً من قوات الاحتلال بأن رجال الشرطة سيستسلمون، ولكنهم فوجئوا بأن اليوزباشى مصطفى رفعت يطلب الإتيان بسيارات الإسعاف لعلاج المصابين وإخلائهم قبل استكمال المعركة، ولكنهم رفضوا واشترطوا خروج الجميع أولاً والاستسلام، وهو ما رفضه اليوزباشى مصطفى رفعت وعاد إلى جنوده لاستكمال معركة الشرف والكرامة، والتى لم يغب عنها أيضا أهالى الاسماعيلية الشرفاء؛ حيث كانوا يتسللون إلى مبنى المحافظة لتوفير الغذاء والذخيرة والسلاح، رغم حصار دبابات الاحتلال للمبنى.

ومع استمرار الاشتباكات، بدأت الذخيرة فى النفاد من رجال الشرطة المصرية، ولكنهم رفضوا أيضا مجرد فكرة الاستسلام، فقرأوا جميعا فاتحة كتاب الله والشهادتين، بما فيهم الضابط المسيحى اليوزباشى عبد المسيح فى لحظة تؤكد مدى تماسك ووحدة شعب مصر العظيم، وقرروا القتال حتى آخر طلقة.
وقرر اليوزباشى مصطفى رفعت الخروج من المبنى لقتل قائد قوات الاحتلال “اكسهام” أملا منه فى أن يؤدى ذلك الى فك الحصار وانقاذ زملائه … وبالفعل عندما خرج، توقف الضرب كالعادة، ولكنه فوجئ بضابط آخر أعلى رتبة من أكسهام، وبمجرد أن رأى هذا الضابط اليوزباشى مصطفى رفعت، أدى له التحية العسكرية، فما كان من اليوزباشى رفعت إلا أن يبادله التحية، وتبين بعد ذلك أن ذلك الضابط هو الجنرال ماتيوس إرسكين قائد قوات الاحتلال البريطانى في منطقة القناة بالكامل.

وتحدث الجنرال إرسكين إلى اليوزباشى مصطفى رفعت، وقال له أنهم فعلوا ما عليهم بل أكثر، وأنهم وقفوا ودافعوا عن مبنى المحافظة ببطولة لم تحدث من قبل، وانهم أظهروا مهارة غير عادية باستخدامهم البنادق التي معهم ووقوفهم بها امام دبابات واسلحة الجيش البريطانى المتعددة، وأنه لا مفر من وقف المعركة بشرف.

وافق اليوزباشى مصطفى رفعت على ذلك مع الموافقة على شروطه وهى أن يتم نقل المصابين والإتيان بالإسعاف لهم، وان الجنود التي تخرج من المبنى لن ترفع يديها على رأسها وتخرج بشكل عسكري يليق بها مع تركهم لأسلحتهم داخل المبنى .. فوافق الجنرال إرسكين على تلك الشروط وتم خروج قوات الشرطة بشكل يليق بها وهم فى طابور منظم.

ولم يستطع الجنرال إرسكين أن يخفي إعجابه بشجاعة المصريين فقال للبكباشي شريف العبد ضابط الاتصال: – لقد قاتل رجال الشرطة المصريون بشرف واستسلموا بشرف ولذا فان من واجبنا احترامهم جميعا ضباطاً وجنوداً، وقام جنود إحدى الفصائل البريطانية بأمر من الجنرال إرسكين بأداء التحية العسكرية لطابور رجال الشرطة المصريين عند خروجهم من دار المحافظة ومرورهم أمامهم تكريما لهم وتقديرا لشجاعتهم.

توابع المعركة:

في صباح السبت 26 من يناير 1952 انتشرت أخبار الحادث في مصر كلها، واستقبل المصريون تلك الأنباء بالغضب والسخط، وخرجت المظاهرات العارمة في القاهرة، واشترك جنود الشرطة مع طلاب الجامعة في مظاهراتهم، وانطلقت المظاهرات تشق شوارع القاهرة التي امتلأت بالجماهير الغاضبة.

تسببت هذه الأجواء الغاضبة في قيام حريق القاهرة، وتسببت أكثر في تدهور شعبية الملك فاروق لأبعد مستوى، مما مهد لقيام الضباط الأحرار بثورة 23 يوليو بقيادة اللواء محمد نجيب في نفس العام.

وأسفرت تلك الملحمة التاريخية للشرطة المصرية عن استشهاد نحو 50 من رجال الشرطة وإصابة 80 آخرين، فاستحقت أن تكون ليست يوما فقط أو عيدا للشرطة المصرية، ولكنها أصبحت عيدا قوميا لمحافظة الإسماعيلية وللشعب المصرى كله.

 

كتب/ مصطفى خالد