دفعته قدماه بخطى عشوائية متثاقلة نحو المجهول، هجر عشًا متواضعًا يقي أسرته الصغيرة قيظ الصيف وبرد الشتاء، تلبدت سماء أوصاله بالغيوم، هام على وجهه في الحارة الضيقة التي ارتوت من زخات السماء المنهمر فغدت وحلًا وطينًا ترك أثرًا على ركبتيه، غطت القشعريرة نبضات قلبه، ملأت عبارات زوجته نفسه كآبة سوداء.

لليوم الثالث دون هدنة إفطارنا فول، غداؤنا عدس.

منذ شهرين لا تعطيني سوى صرة قطع معدنية بعدد أصابع يدك.

أصابع يدي!

قلّب يمينه، حملق فيها، تفحًّصها بعين غلبتها سحابة مطيرة، تأججت أحزانه فأنسته البرد القارس، همس في أعماقه بزفرة أسى ككرة الجمر المتوهج.. أصابع يدك.. وأين هي تلك الأصابع؟

على مدى سنوات ثلاثة، نسيت.. لا؛ لا بل تناسيت.

كانت وردية نهارية في مصنع السيراميك ذائع الصيت، وكعادة عمال المصنع تجمعنا في لحظات الراحة لقيمات معدودة وكأس شاي وأنفاس رمادية نظنها تخفف أعباء العمل، وبضع ضحكات مسروقة تحثنا على ورديات متلاحقة تمنح أولادنا تعويضًا مقبولًا عن ساعات فراقهم الطويلة، قطع الجلسة صوت أحدهم حين خاطبني.. وأين صديقك وتؤام روحك، انتبه صابر إلى المكان الخالي والذي كان يشغله دائمًا جاره وصديق عمره كريم.. انتفضت حيرته كفأر مذعور، تقافزت خطواته كضفدع قلق، اندفع نحو غرفة الصيانة فربما غفا كريم فيها وقت الغداء، التقط أنفاسه واستكانت ضربات قلبه حين وجده معانقًا آلة معطلة يحادثها بعددٍ شتى علها تستجيب لأنامله وتعود إلى هديرها المعهود، أشار كريم إلى صابر إشارة سريعة احتل على إثرها مكانه تحت التروس، أعاد كريم التيار بضغطة زر، لم يتمكن صابر من سحب كفه سريعًا.

اقرأ أيضًا: صك الغفران

“الحمد لله لم تفقد ذراعك”.. قالها الطبيب مواسيًا، تحلًّق حوله زملاؤه، لا تظن صاحب المصنع سوف يتخلى عنك، لن ينسى جهدك وإخلاصك، ننتظر عودته من رحلة استجمام صيفي، عاده كريم في بيته، أبدى أسفه، حرره صابر من براثن إحساسه بالذنب، سلَّمه مظروفا رُسِمت عليه عبارات ثناء معسولة، وحوى المظروف ثلاثة آلاف جنيه ووعدًا بإحسان من صاحب المصنع لن ينقطع، سرعان ما انقطع.

ضاق عيشه؛ رغم ودّ كريم الذي لم ينقطع، لم تًشْكُ أم أولاده شظف العيش، ذات مساء أخبرها أنَّ صديقه الوفي دبَّر له عملًا.. مناديًا على إحدى حافلات النقل الجماعي.. لست بحاجة إلى أصابعي المفقودة، هزّت كتفها وقبَّلت يدها.. كلّ صباح يعلو صوته.. هرم.. رماية.. تجنيد.

ساورته أسراب شكوكه؛ عاركها بقوة، كيف؟! مستحيل تهون عشرتنا.. أصيلة تتحمل ثقل جبال، لم تتبدد مخاوفه.. بالتأكيد كانت تعني ما تقول؛ وإلا لماذا قالت أصابع يدك؟.. هام على وجهه.. تسمَّر أمام كتلة بشرية احتشدت أمام شاشة تلفاز يصطرخون كل منهم يزعم أن الهدف تسلل، همَّ بالدخول.. تلمس جيبه بحذر.. تذكر أن حصيلة عمله اليوميّ تسلمته أم أولاده عدًا ونقدًا، صاح به كريم من نافذة حجرته التي كادت تلامس قعر الأرض، استقبله بترحاب وكوب شاي ساخن، تجاذبا حديثًا ممزوجًا بصوت التلفاز.

أطبق الصمت على الغرفة حين أطلت من الشاشة شقراء حسناء ترتدي معطفًا من فرو الدب الروسي الفاخر، صادفت طفلًا كسيحًا.. شيخًا مهملًا ترتجف لقمة في فمه.. عجوزًا قهرها الهمُّ تحمل حفيدة غيَّب البرد أمها.. فتاة مشردة ستر لحمها ثوب عارٍ.. نساء مقهورات ينتشن القمامة بحثًا عمَّا يسد الرمق، تثاقلت خطوات المذيعة بين خيام مرقعة؛ رأت صورًا تجعل الولدان شيبًا، عضَّ صابر أصابعه المتبقية، عاد أدراجه بعدما أقرضه صديقه خمسة جنيهات، نقدها البقال، حمل حفنة كنزه المفقود بحرص، عانق دفء أسرته، انقشعت غيوم نفسه وانفرجت أساريره حين لامست شفتاه رشفة عدس أليفته.

اقرأ أيضًا: مرحلة ما قبل الوصول

كتب: هشام أحمد.