منتصف أغسطس الحارق في الجنوب، لهيب الشمس المبتسمة جعل الظهيرة في جنبات القرية مشتعلة دونما هوادة، احتمى سامح من القيظ بشجرة الصفصاف العتيقة، ألقى نظرة خاطفة على عقارب ساعته العتيقة والتي دوما تلدغ معصمه، ابتسامة قلق تعلو وجهه الأسمر، طال غياب الصحبة، اتفقوا على اللقاء بعد صلاة الظهر، مقصدهم مبنى كلية التجارة، حان وقت الحصاد، أربعة أعوام مضت دهرا، أبي يتلهف لحصولي على الشهادة، انحنى ظهره كي يستقيم عودي، لاح شبح شريف ورفيقيه عن بعد، لوّح له بعلامة النصر:
-طال انتظاري؛ الشمس حرقتني، وما سر ابتسامتك العريضة و علامة نصرك؟!
-مبارك ..مبارك؛ ابتسامتي ؟ أبشر يا سامح، الحمد لله قل وداعا للكتب، فزنا ورب الكعبة.
-تلعثم سامح وعلا خفقان صدره؛ الحمد لله، هنيئا لأبي .. أيام قلائل .. أضع عنه أوزار أيام شقاءه .. العمل ثم العمل ثم العمل.
التقط أنفاسه سريعا، استفاق من نشوته .. بكالوريوس تجارة قسم محاسبة تقدير جيد جدا .. أيتها البنوك .. أيتها الشركات افتحي ذراعيك .. جاءك من زهرة الجنوب سامح الأسواني يرفع رايات التحدي، أعد لك غراس الأمل كي يحصد ثمار النجاح، ابتسم ثانية ..التقط حجرا أطاح به في ماء النهر فارتعش الماء الراكد بابتسامة ثقة ملأت نفسه يقينا بمستقبل باهر.
قطع الطرق ذهابا وإيابا، قرع الأبواب دون كلل أو ملل، سلك فجاجا شتى، أوشك اليأس أن يتسرب إلى شرايين فؤاده، أتعجز سريعا؟ أين عزمك وعزيمتك؟ سامح هل خارت قواك؟ أبوك كدح سنين طوال .. تساقطت حبات عرقه رطبت ثرى الأرض الصلبة فأزهرت وأينعت، الآن جاء دورك .. تورمت قدماه .. أطلت أصابعها من ثقوب جوربه، رسمت على وجهه ابتسامة ساخرة، صادفه إناء ماء فخاري، استوقفته عبارة لا تنس الدعاء للعابد المبارك الشيخ العدواني، ارتشف الماء الممزوج بالبركة .. وأين بركاتك يا عدواني؟ ارتمى في أحضان صفصافة، استظل بظلها، تلقته كأم حنون، غفا كطفل هدهدته أمه برفق، سمع صوتا رقيقا شق أذنيه، انتفض من غفوته مرددا .. كيف السبيل إليك يا شيخي؟
ارتعدت فرائصي كدت أفقد رشدي ، فقد تمثل لي بشرا سويا، مد لي يدا ووعدا بانتشالي من فقري المدقع؛ قم فاتبعني ولا تسألني، إن سألت مرة ففارقني إن لم تسطع معي صبرا، اقتفى أثره حتى بلغ منتهاه، سرداب ضيق، توقفت خطاه عند مدخل غرفة باطنها الغموض وظاهرها ضوء أخضر ودخان بخور ودقات دف، أذن له شيخه فمرق من بابها الأخضر، وما تلك النقوش العجيبة، عاد إليه رشده ؛ سؤالك محظور، أتخرج من فردوس الشيخ المأمول قبل الدخول؟! وما تلك بيمينك يا شيخي؟ عظام كالرميم، وغصون شجرة الزقوم، باغته الشيخ حين سأله بصوت يبعث الرهبة في النفوس؛ أعلمُ أنك من أبناء المدارس، تخرجت في الجامعة وحصلت على شهادة عليا من كلية التجارة .. قاطعته مهللا ومكبرا، فقد كشف المستور، ورفع حجاب الغيب المغمور، تابع حديثه من تلك اللحظة وكلتك باستقبال المريدين، وطرح الأسئلة قبل اللقاء الروحاني، وتدوين الأمور في كتاب مرقوم، والباقي معلوم ومفهوم، أومأت برأسي معلنا الطاعة.
في عصر اليوم التالي، بدأت الوفود النسوية بالقدوم، وبدأت أمارس مهمتي بهمتي، نعم .. أم حسين لقب دون ولد، قدمت من قرية التنور تحمل المال والنذور، العمر عشرون، والزوج خمسون، الأمل يحدوها بأن يحقق الشيخ رجاها ..، اسمي رحاب، انقطع عني الخطاب، فتشت عنهم حتى ذقت العذاب، زعموا العدواني مخاويا، وزواجي علي يديه باديا، ومن تكون العجوز؟! زليخة الدلالة، بلغت من العمر أرذله وما زالت ترجو من الحبيب وصاله، ونصحوها بالشيخ ففي جعبته حباله.
دوّنت بتأن ما سمعت، وعلى شيخي استأذنت، ناولته دفاتري وأشار عليَّ فجلست منه مجلس الكلب الوفي من صاحبه، بدأت الطقوس، اشتعلت النيران، وعطَّر البخور المكان، تجلت عليه الروحانيات، وامتلأ كفه بالجنيهات، وخد وهات، ولابد من ذبح كبش متعدد الألوان، أزرق وأصفر وأرجوان ، وإلا فلن يتحقق المراد من رب العباد، هالني ما سمعت من الطقوس، وما رأيت من نثر الفلوس، لفك المعكوس، وطرد الجنِّ المحبوس، وعودة الحبيب البعيد، والزوج الشريد.
أذن لي شيخي بعد شهور ثلاث أن أحمل العطايا، وما طاب من المال والهدايا، وأزور أبي المتعطش لرؤية وجهي، على ألا أخبره بطبيعة عملي؛ لأنه وكما يعرف الشيخ لا يعتقد في الكرامات بل يراها من المحرمات، استقبلني أبي استقبال الفاتحين، بعدما أدركت عيناه أنني غدوت من الفالحين.
-وكيف حصدت كل هذا في فترة وجيزة؟، ومن أين لك هذا الثوب النظيف؟، وكيف استبدلت جوربك المثقوب؟ انهالت الأسئلة، ولم يمنحني فرصة للحصول على جواب، المحزن أنه لم يحتضني حرصا على الثياب، انحنيت على يديه أمطرتها بقبلات العرفان والبر والحب، مكثت حسب التعليمات يومين، فلم يعد الشيخ العدواني يطيق بعدي، حرصا على أسراره وحلب أموال زواره.
أصبحت أكثر قربا من الشيخ، فقد فهمت العبارة، وشربت الصنعة وفنونها بمهارة، مضى عام فمنحني غرفة مجاورة حينما أظهرت الشطارة، مكثت فيها أسابيع سبعة، اختفيت بعدها لمدة قصيرة، فتش عني العدواني بندامة، رغم تسخيره الجن وخدامه، استشاط غضبا وثارت ثورته حين تلقى تهنئة حارة من أحد مريديه، يخبره أن صبيه سامح أطلت طلعته البهية من قناته الفضائية؛ بلافتة كبيرة (العالم الروحاني الجليل سامح الأسواني…عالم الفلك الشهير.. يقرأ الطالع ويجلب الحبيب ويسلب ما في الجيب.
نهضتُ من سريري مفزوعا بعدما سكبت أمي الماء على وجهي بصراخها (انهض من نومك يا مفعوص حان وقت امتحانك).
بقلم: هشام أحمد