وسوف تدرك يومًا أو في لحظة من عمرك يا صديقي أن نظرتك للأشياء قد تغيرت وربما تراها تافهة وليس هذا تقليلًا من شأنها، لكن لأن الاهتمامات تتغير وتتبدل مع تقدم العمر ويصبح المقربون أقل مما مضى، وتراك سعيدًا في خلوة مع أغنية من الأغاني التي كنت ترفضها ولا تستسيغها قبلًا من أغاني الزمن الجميل مع قدح من القهوة أو كوب من العصير على أضواء خافتة وتميل إلى الجلوس في هدوء متجنبًا مصادر الضوضاء!
أمندهش أنت؟! لا تندهش يا عزيزي فهذه تعد إحدى علامات النضج الحقيقي، فبعد الشباب تدور الأيام وتشتاق إلى كل ما رفضته في ماضيك! بل وتقوم بنفس الأفعال التي كان يفعلها والدك وكنت تحاول جاهدًا الهروب منها! وتجد نفسك اليوم تحن اليها وتنتظر تلك اللحظة على أحر من الجمر! وحينما تجلس في ذاك الهدوء تتذكر أيام الشباب وكيف كنت من المتمردين على ما كان يطلبه منك والدك، من الهدوء والصوت الخافت والاستماع إلى الموسيقى الهادئة وحلاوة فنجان القهوة، علك اليوم يا صديقي صاحب نهاية الأربعينات تجد نفسك في تلك الأجواء وتقتل نفسك عملًا وأملًا في الوصول لتلك اللحظة! وللحظة يشرد ذهنك وتقول سرًا… دوائر العمر دائرة وما رفضته في أمسي أشتاق إليه في يومي! لا تندهش فالنضوج لا يأتي صدفة أو في غمضة عين… فالخبرات والتجارب تجعلك تشتاق لو عاد بك الزمن لتقبل كل ما رفضته قديمًا لتحاول الاستمتاع به أطول فترة ممكنة!
لا ترفض حاضرك في أي من مراحل عمرك لأنك وسريعًا ما تخطو خطوات نحو إدراك ما بذله أبوك من أجلك صغيرًا أنت وشابًا هو… بل وتعود للماضي كالبرق وتنشط ذاكرتك ويغمرك الحنين وكأنك لم تشعر به قبلًا وتنطبع في ذاكرتك صورة لوالدك قديمًا وتبدأ ذكرياتك القديمة تداعب خلايا عقلك وثناياه، وتبدأ بالتفكير لأول مرة متبادلًا الأدوار (أنت الأب الآن) تفكير تغير شكله بمرور أعوام شبابك… تفكير يتسم بالعقلانية مع مشاعر لا تستطيع وصفها لأنها ببساطة (مشاعر تحس ولا توصف ولا يمكن تسميتها) تفكر كيف كان أبوك يفعل كل شيء من أجلك ولأجلك (يعمل، يكد، يلهو معك، يغضب، يضحك، يؤدبك).
اقرأ أيضًا: لحظة شروق
كيف كنت وما زلت أنت محطة حبه وحياته وكل ما يقوم بمحبة أبوية به من أجلك برضا وتفان! وحين كان يمرض أو يتعب كان هذا لا يمنعه عن إسعادك لحظة واحدة.
والآن هل تشعر بما قرأت؟ هل تأكدت من حب والدك لك؟ هل عرفت لماذا أنت صرت تفعل ما كان يفعله الآن؟ هل أنت مثل أبيك؟ ما قرأته يا صديقي الآن ليس وعظًا إنما هو معايشة عن تجربة سيدي القارئ.
أخيرًا وليس بآخر..
ادرس كل شيء قبل رفضه أو التذمر عليه،
افهم محبة أبيك لك جيدًا وتحاور معه،
واعلم جيدًا وتيقن وتأكد:
ما من مخلوق على وجه المسكونة يحبك مثل أبيك، سوف يمر الوقت وتحاول أن تسمع صوته أو تراه حلمًا، ولكن هيهات قد يكون الوقت قد فات والأدوار انتهت، وأصبحت أنت من عليه الدور لكي يراه أولاده حلمًا.
هذه هي الدنيا يا عزيزي أدوار نتبادلها جميعا.
اقرأ أيضًا: سوء اختيار
كتب: رفيق عادل ثابت.