حكاية مكان عزيزي القارئ هي سلسلة مقالات سيتم نشرها إن شاء الله بصفة دورية، نتناول فيها في كل مرة حكاية مكان مميز تاريخيًا أو ثقافيًا أو اجتماعيًا أو شعبيًا ونستعرض فيه أهمية هذا المكان، وقيمته وتاريخ نشأته وتطوره عبر الزمن، ونرجو لهذه السلسلة أن تحوز على إعجابك عزيزي القارئ وتعطيك المعلومة والفائدة المرجوة، وحكاية مكان اليوم سنتناول فيها حكاية حي بولاق أبو العلا، ذلك الحي التاريخي المصري الأصيل المعروف بالرجولة والشهامة التي يتمتع بها ويشتهر بها (أولاد البلد) كما يقولون.
ماذا تعرف عن حي بولاق أبو العلا؟
طالما كانت حكايات الشوارع والأحياء أسرارًا تخفي بين جنباتها العديد من الألغاز والتواريخ التي تظل شاهدة على هدير التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تمر بها البلاد، فكم من شوارع وأحياء كانت تعتبر في الماضي مقصدًا للعائلات العريقة وكبار المسئولين، وصارت الآن مستقرًا للكادحين ومحدودي الدخل أو الباعة المتجولين، وأكبر مثال على ذلك حكاية مكان اليوم حي بولاق أبو العلا الشهير في القاهرة، والذي مر بمراحل تاريخية حولته من (البحيرة الجميلة) وميناء القاهرة النهري في الماضي، ليصبح اليوم معروفا باسم أشهر سوق في مصر (وكالة البلح).
اقرأ أيضًا: مدينة طابا.. حكاية أرض مصرية
تاريخ حي بولاق:
يقال إن اسم بولاق اشتق من الكلمة الفرنسية (Beau Lac)، التي تعني (البحيرة الجميلة)، ولكن هذا اعتقاد خاطيء لأن حي بولاق كان موجودًا قبل الحملة الفرنسية، أما أبو العلا فهو اسم مسجد وضريح السلطان أبي العلاء الموجود بالحي الذي يقال إنه من نسل آل البيت.
بولاق والخديوي إسماعيل:
زاد الاهتمام بحي بولاق أبو العلا في عهد الخديوي إسماعيل، حيث خطط لبناء (القاهرة الخديوية)، ووصل التخطيط الجديد من ميدان الإسماعيلية جنوبًا حتى نهاية شارعي شريف (المدابغ سابقًا)، وسليمان باشا، ثم أراد تجـديد شارع بولاق (26 يوليو الآن) مع مشروع تخطيط ميدان الأزبكية؛ حيث إن هذا الطريق يعتبر هو بداية تعمير ضاحية بولاق، والذي أدى إلى ربط القاهرة الجديدة بشاطئ بولاق، ثم حدثت الطفرة التعميرية الكبيرة عند إنشاء كوبري بولاق أبو العلا، الذي تم افتتاحه في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني، وكان الكوبري معجزة هندسية معمارية بكل المقاييس ويعتبر أحد معالم بولاق الهامة لربطه بين القاهرة وجزيرة الزمالك.
معالم بولاق التاريخية:
يضم حي بولاق أبو العلا عددًا من المعالم التاريخية، ومن أهمها:
- جامع سنان باشا: وهو أول مسجد كبير يتم بناؤه على الشكل العثماني.
- المطبعة الأميرية: التي أنشأها محمد علي وقت النهضة التعليمية في مصر.
- سوق الحطب: ويقع شرقي المطبعة الأميرية، وشارع المطبعة الأهلية.
- اصطبلات الخاصة الملكية: وتقع على يسار شارع بولاق (26 يوليو حاليًا)، وخلف جامع السلطان أبو العلا.
- حي الحطابة: ويقع مكان المقر الجديد والحالي لوزارة الخارجية، ذات الملامح الفرعونية.
- شارع اصطبلات الطرق ومقر هيئة نظافة العاصمة: وذلك قبل إنشاء بلدية القاهرة.
- جمعية الرفق بالحيوان: التي كانت تقع جنوب حي بولاق أبو العلا.
اقرأ أيضًا: حكاية مكان.. المسجد الأقصى أسرار وتاريخ
عمارات وفنادق ومباني بولاق أبو العلا:
أنشئت العمارات الضخمة على طول الطريق من حديقة الأزبكية إلى كوبري أبو العلا، ومن أهمها:
- عمارة الجندول: التي أقامها الموسيقار محمد عبد الوهاب.
- عمارة شيكوريل: التي بنيت مكان (بار صولت) الحلواني، وكان مطعمًا ومحلًا للحلوى وملتقي كبار الأدباء والشعراء والمثقفين مثل الشاعر أحمد شوقي.
- بار المحروسة: الذي كان يقع في مقابل بار صولت وكان يجلس عليه الوجهاء من آل عائلة (يكن) وعائلة آل (المانسترلي) وغيرهم، وتم أيضًا إنشاء سلسلة من الفنادق المتنوعة التي تتناسب مع كل الفئات، ومن أشهرها: (فندق كلاريدج- فندق جلوريا فندق كارلتون- فندق جراند أوتيل)، كما تم إنشاء العديد من المباني العامة والخدمية والعمارات الضخمة من أشهرها: (مبنى دار القضاء العالي- مبنى مصلحة الشهر العقاري).
- عمارة لاجيفوار التي بنيت أمام دار القضاء العالي، وتعتبر أحدث عمارة في الشارع، وتتزين العمارة بأعمدة الحديد المشغول، وتماثيل وكرانيش من الجبس، وفي أعلاها قباب ما زالت صامدة حتى الآن رغم مرور أكثر من 100 عام.
- سوق التوفيقية الذي يقع خلف هذه العمارة، وهو أول سوق للأطعمة الطازجة والخضروات والفاكهة.
- الجمعية المصرية للعلوم السياسية.
- مقر جمعية الإسعاف.
- معهد الموسيقى العربية.
- معهد ليوناردو دافنشي للفنون والعمارة.
بولاق أبو العلا وحي الصحافة:
يعتبر حي بولاق أبو العلا من الأحياء التي تتواجد فيها العديد من المؤسسات الصحفية والدبلوماسية، ومن أهمها:
- مقر جريدة الأهرام.
- مقر مؤسسة أخبار اليوم.
- مقر جريدة المساء، التي أقيمت في الخمسينيات.
وكان الجميع يتعجبون من وجود أكبر قطبين للصحافة المصرية وهما الأهرام وأخبار البوم في شارع واحد، حتى أطلقوا عليه اسم شارع الصحافة.
اقرأ أيضًا: ساقية الصاوي.. حاضنة للإبداع الشبابي
بولاق أبو العلا والعشوائيات:
بالرغم من الأهمية التاريخية والتجارية للحي، إلا أنه للاسف امتدت العشوائيات إليه مثل عشش الترجمان والعدوية والحواري والأزقة الضيقة، التي لا تستطيع حتى سيارات الشرطة أو الإسعاف أو المطافئ المرور فيها، مما يعرضها للخطر في حالة حدوث اي حوادث وطلب النجدة، ولكن أعمال التطور بدأت تطول حي بولاق أبو العلا وخاصة بعد إنشاء المبنى الضخم على كورنيش النيل في الحي ليصبح مقرًا لوزارة الخارجية.
وذلك نتج عنه إزالة الكثير من العشش والمباني العشوائية، ولا ننسى هناك أيضًا مبنى الإذاعة والتلفزيون الضخم الذي تم بناؤه في أوائل الستينيات، وكذلك هناك أيضًا المركز التجاري الدولي على الكورنيش، ولكن مازالت هناك مساحات عشوائية كثيرة وقديمة من طابق واحد وطابقين موجودة بالحي.
وكالة البلح في بولاق أبو العلا:
من أشهر المناطق العشوائية في حي بولاق أبو العلا، منطقة وكالة البلح، سميت بذلك لأنها كانت قديمًا سوقًا لبيع البلح والتمور، كانت وما زالت تعتبر منطقة السوق رخيص الأسعار، حيث كانت من قبل مقرًا لبيع الخردة وتواجدت بها الورش الصغيرة، ولكن مع تطور المنطقة وتجددها أصبحت منطقة الوكالة منطقة هامة لبيع مختلف أنواع الملابس والمفروشات، وهناك أيضًا منطقة (مثلث ماسبيرو (التي قامت محافظة القاهرة بإزالتها في إطار خطة تطوير شاملة للمنطقة بالتعاون مع صندوق تطوير العشوائيات بوزارة الإسكان).
فتوات بولاق أبو العلا:
حكت صفحات التاريخ المصري الحديث وتاريخ المقاومة الشعبية، حكايات وقصصًا عن فتوات الحي القديم في بولاق أبو العلا، حيث أوضحت قصص التاريخ معدن الشعب المصري الأصيل الذي ثار وكافح وحارب وهو لا يملك إلا النبابيت والعصي وعددًا قليلًا من البنادق والطبنجات، بينما يمتلك عدوه أحدث الأسلحة، وكان حي بولاق ضاحية من ضواحي القاهرة تقع على النيل، وعرف الفرنسيون في حملتهم أهمية موقع بولاق لأنها نقطة الانطلاق إلى الوجه البحري كله، ولهذا جاء اهتمامهم بهذا الحي.
وقد قام الجبرتي بوصف هذه الفترة لأنه عاشها وعاصرها يومًا بيوم، حيث يقول عبد الرحمن الجبرتي أن الفرنسيين أقاموا محاجر صحية في القاهرة في حي بولاق أبو العلا وفي الإسكندرية ودمياط ورشيد، وأنشأوا في حي بولاق مباني يحجزون به القادمين من أسفار بعد عدة أيام؛ ليتأكدوا من خلوهم من الأمراض.
وبالرغم من أن أهل بولاق لم يساهموا مساهمة واضحة في ثورة القاهرة الأولى عام 1798، إلا أنهم هم من فجروا ثورة القاهرة الثانية وهم الذين قادوها، حسبما قال المؤرخون مثل الجبرتي أو الرافعي، بل إن قادة الحملة الفرنسية أنفسهم اشادوا بمقاومة أهالي حي بولاق أبو العلا لهم خلال ثورة القاهرة الثانية.
السينما وحي بولاق أبو العلا:
الجدير بالذكر أن حي بولاق أبو العلا كان محط أنظار الكثير من المخرجين والفنانين، حيث كانوا يذكرونه في أفلامهم بالرجولة والشهامة، وكان فتوات بولاق يدافعون عن الحق ويحكمون في المنازعات بين فتوات الأحياء الأخرى، حتى تم إنتاج فيلم يحمل اسم (فتوات بولاق) للنجم فريد شوقي.
كما تم إنتاج فيلم يحمل اسم (القلب له احكام) لسيدة الشاشة فاتن حمامة والنجم أحمد رمزي يحكي عن قصة حب بين فتاة من حي بولاق أبو العلا وزميلها في كلية الطب من حي الزمالك الراقي، والصراع الطبقي بين الغني والفقير في كوميديا اجتماعية راقية وجميلة.
وختامًا عزيزي القارئ، يظل حي بولاق أبو العلا حيًا حيويًا ومتنوعًا، فهو يجمع بين عراقة الماضي وحداثة الحاضر، ويضم العديد من المعالم التاريخية والثقافية، كما أنه مركز تجاري وثقافي مهم في القاهرة.
اقرأ أيضًا: مشروعات تطوير القاهرة.. إحياء المدينة التاريخية
كتبت: سحر علي.