الموت والحياة نقيضان في جدلية مطلقة، تحوّل كيان الإنسان إلى ساحة صراع للبحث عن حقيقة الوجود بعيدًا عن وهم اليقين المطلق، هذه الجدلية يطرحها فيلم الجنة الآن للمخرج الفلسطيني (هاني أبو أسعد)، من خلال تسليط الضوء على الصراع الذي يعيشه شابان (خالد وسعيد)، يعزمان على تنفيذ عملية استشهادية في (تل أبيب).
أحداث فيلم الجنة الآن:
سعيد والصراع مع العدم:
سعيد شاب يعاني ككل فلسطيني في ظل الاحتلال، يحمل إليها على كاهليه وصمة عار والده الذي تم اغتياله لتعاونه مع العدو، يبدأ صراعه بالظهور للعلن في اللحظة التي يتم فيها اختياره للقيام بالعملية الاستشهادية خلال يومين، وهنا تطرح مسيرة سعيد من خلال رحلته لتنفيذ المهمة أهم سؤال في فيلم الجنة الآن: “لماذا يفجر الاستشهادي نفسه؟”، يقول سعيد في أحد الحوارات: “لمّا يكونوا هم الجلاد والضحية، ما ضل عندي خيار غير أنّي أكون المقتول والقاتل بنفس الوقت”.
تخبرنا عيناه، ولحظات الصمت الطويل التي شكلت جزءًا من شخصيته، عن ماهية صراعه، في رحلة بحثه عن الإجابة وصولًا إلى العدم الذي حاول مقاومته بالبحث عن فكرة الاستشهاد كبديل وحيد لهاجس العدمية، طارحًا سؤالًا جدليًا في الوقت ذاته: هل أُفلح؟، لم يعد الموت لديه متروكًا للقدر، بل أصبح قرارًا يتخذه، معتقدًا أنّه بهذا ينتصر على نفسه، كمقدّمة لانتصاره على عدوه.
ويبرز الإنسان في شخصية سعيد، عندما وقف في إحدى محطات النقل، ووضع يده علي سلك حزام التفجير، فالتقت عيناه بعيني طفلة “صهيونية” في مقدمة الحافلة، تجبره على التراجع عن تفجير نفسه.
اقرأ أيضًا: فيلم ڤوي ڤوي ڤوي.. يمثل مصر في جائزة الأوسكار 2023
شخصية خالد الصدامية وتقلباتها:
خالد هو الشخصية الثانية في فيلم الجنة الآن، صديق سعيد وشريكه في حياة الظلم والقهر التي يعيشها الفلسطيني في ظل الاحتلال، وفي العملية الاستشهادية القادمة، فقد والد خالد إحدى عينيه، عندما وضعته قوات الاحتلال في حالة اختيار بين فقد عينه أو أن يأخذوا ولده، خالد!
هذه الحادثة تساعد في فهم شخصية خالد الصداميّة الثوريّة المطلّة بنظرات حادة، والرّافضة للواقع، في مشهد الاستعداد للعملية، يقف خالد ممسكًا سلاحه بعزم أمام الكاميرا ليلقي خطابًا سياسيًا بليغًا، بنبرة عالية تحمل اليقين الذي لا يشوبه تردد في قراره، يتفاجئ خالد أن في الكاميرا عطل مفاجئ!، فيثور رافضًا لامبالاة من هذا النوع أمام خيار مصيري في قضية حياة وموت، ويعزز المخرج المشهد، فيقدم أعضاء التنظيم يشاهدون خالد في إعادة التسجيل، وهم يتناولون ببرودة أعصاب الطعام الذي أعدته والدة خالد له، ويلتهمونه كمتفرجين على فيلم سينمائي.
خلال وضع الأحزمة الناسفة على جسدي الصديقين، بعد تغسيلهم وحلاقة الشعر وكأنهما عريسان، يتنقل المشهد بين عيني سعيد الحائرة، وعيني خالد الثابتة بقوة، ثم يظهران بزيهما الأنيق على مائدة الطعام ليعيد المخرج بناء لوحة العشاء الأخير في مشهد يحمل رمزية الوداع لمن يقدم نفسه فدية عن كثيرين، بعد هذا المشهد، يسأل أحد الصديقين واحدًا من المخططين: “بعد العملية ماذا سيحدث؟”، فيجيب: “سيأتي اثنان من الملائكة ويأخذانكما إلى الجنة”، ويسأل الآخر متوجسًا: “مية بالمية؟”، فيجيبه: “رح تتأكدوا لما بتساووا العملية”.
المخاض الصعب بين الموت والحياة:
ينطلق الفدائيان لعبور الحدود، وهناك تداهمهما دورية عسكرية صهيونية، فيهربان فورًا وينجح خالد بالعودة إلى الفصيل، بينما يتوه سعيد في الأراضي المحتلة، ويبدأ خالد رحلة البحث عن شريكه، ويقابل سهى صديقة سعيد، فتعلم بالأمر وترفض فكرة الاستشهاديين، ودخلت في حوار ساخن مع خالد حول مفهوم النضال ومحاربة المحتل على أنها هذه هي معركة الوجود لا الموت تفجيرًا، ويتحول يقين خالد إلى التساؤل عما إذا كانت العملية الانتحارية غرضًا ساميًا وينتهي الجدل بينهما باقتناع خالد بوجهة نظر سهى.
يعثر الصديقان على سعيد ويحاول خالد إقناعه بأن وجودهم في الحياة هو المقاومة الحقيقية للمحتل وليس الموت مع العدو، أما سهى، فتقول لسعيد في محاولة منها لتنهاه عن عزمه، إنّها تفضّل أن يكون والدها المناضل لا يزال على قيد الحياة على أن يكون بطلًا ميتًا، يذهب خالد الجديد، الرافض لفكرة المقاومة بالاستشهاد، للبحث عن سعيد، الذي يحاول الذهاب وحده إلى (تل أبيب) لتنفيذ العملية.
يلتقي خالد وسعيد تصحبهم سهى، وقبل نزولهم من السيارة، يحسم خالد موقفه ويلغي العملية، أما سعيد فيخدع صديقه وينزل من السيارة ويذهب بعيدًا، وينتهي المشهد مع بكاء خالد المر الذي بات أكثر تأثيرًا في المتلقي من أي مشهد دماء وتفجيرات.
في نهاية فيلم الجنة الآن، يسلط المخرج الكاميرا على عين سعيد لتصبح البطل الوحيد في المشهد قبل أن تختفي تمامًا وسط شاشة بيضاء تشير إلي حالة العدمية التي وصل إليها، وتترك المشاهد أمام سؤال مفتوح حول جدلية الحياة والموت.
اقرأ أيضًا: فيلم السباحتان2022.. رواية الأب الذي حقق حلمه من خلال بناته
كتبت: ميسون حداد.