لا شيء نستطيع فهمه بمجرد الدخول فيه أو اكتشاف وجوده سوى الأحلام أو الخيال، وإنما في الواقع لا يستطيع أحد تفسير أو إدراك شيء بالنظرة الأولى أو قراءة مشهد واحد ما لم يبدأ بطرح الأسئلة وربط الأشياء بعضها ببعض والبحث عن سابق الأحداث التي لم يراها والماضي الذى لم يلحقه، كلما آنت الأحداث أو ما يحدث مباشرة أمام العين معقد كلما كان البحث في الأصول الأولى من الحكمة حتى تنفرد العقدة، ففي البدايات نلاحظ أن كل شيء يبدأ مفردًا بسيطا ثم يشتبك مع باقي الأحداث حوله مكونين حدثًا مختلفًا عن كليهما.
البدايات غالبًا ما تكون شائكة وظنية الحدوث؛ لأنها تكون حسب زاوية المشاهد الأمر الذي دائمًا ما يزيد الأمور تعقيدًا عند وجود الكثير من المشاهدين لواقعة، فيحدث أن يكون لكل منهما رأي فيما شاهده مختلف عن الآخرين بطبيعة البشرية في تناول الأحداث، يتطور الأمر حين يقص أحدهم ما رآه لآخرين لم يروا ما حدث فقط يعتمد رأيهم عما سمعوه ولا يكتفي هؤلاء عن التحدث بما سمعوه، بل ويزيد عما سمع أحداثًا ربما لرغبته في الحديث يتحدث كأنه شاهد والذي يليه لا يختلف عنه فيتحدث بما سمع ويغير منه كأنه شاهده وهلم جرا، كم من حدث صغير رأيته أمامي أو أي شخص آخر رآه يحدث بعينيه ثم بعد ذلك سمعه من آخرين إلا أنه سمع أشياء كثيرة مضافة أو محذوفة حتى ليصبح الحدث كأنه شيء آخر غير الذى رآه، حدث جديد بأحداث جديدة وتفسير جديد حتى يكاد المرء يشك بأنه شاهد الحدث أو إنهم يتحدثون عن واقعة مختلفة عن تلك التي شاهدها.
وبداية الحياة أو بدايتنا أمر مختلف نسبيًا وكليًا أيضًا عن بداية أمور في واقعنا المعاصر في أكثر من زاوية أولًا نحن لم نر البدايات قط ولم نلاحظ التغيرات الأولى ولا التي تليها الأمر الذي كون الاتجاهات والأفكار التي تؤثر على واقعنا دون أن يكون لدينا يد في ذلك، وثانيًا لا يوجد الآن أو في الماضي القريب من شاهدها فإذا ما اعتدنا القياس على الرؤية أو السمع المباشر أو غير المباشر فإنه لا يستطيع العقل إدراك حقيقة الوجود أو معرفته يقينًا كليًا أو جزئيًا فقط يعرف ظنيًا جانبًا واحدًا فالطفل الصغير إذا سألته عن الدنيا وبدايتها فإنه يتكلم بإدراكه إن الدنيا فقط غرفته أو منزله، ولا يشك ولو نسبيًا بأن هناك حياة غير والديه وإذا ما سألت فالأكبر قليلًا يعرف أن جده أو جده الثاني هو بداية الحياة، وربما سمع قولًا من أحد والديه عن جده أو قصة هنا أو خطابًا هناك فيتكون لديه معرفة قليلة بالحياة قبله، والحياة مليئة بالقصص عن السابقين وعن البدايات وكذلك مليئة بالأحداث الثابت وقوعها وأخرى لا يثبت بالدرجة الكافية فقط في القصص أو الرؤى والنظريات.
اقرأ أيضًا: ما الدنيا؟.. عرض المشكلة أولا
غير أن هناك الكثير والكثير من القصص أو النصوص والأخبار المختلف عليها سواء بالإثبات أو النفي والأكثر من تلك القصص والآثار عن السابقين متناقضة ليس لعيب في الراوي وإنما لكثرة الرواة، وكما نحن لم نشاهد البدايات فعلينا معرفتها من الرواة، ولكن من هم الرواة الذين شاهدوا البدايات أو أخبروا عنها، الملاحظ فيه أن أغلبهم اتفق على الوقائع الأولية إلا إنهم مختلفون في أبطالها وكيفية حدوثها والملاحظ أيضًا أن الرواية نفسها التي تقص أو تكتب ليست كاملة ودائمًا ما ينقصها شيء ما ربما من أجل ذلك لا نستطيع التحقق من أيهما وإنما علينا إكمال هذه النواقص بالتصديق والإيمان بأن هذه الرواية حدثت بالفعل.
الرواة الذين نحن بصدد ذكر ما رأوه كما ذكرنا سابقًا كثيرون إلا أننا نستطيع تصنيفهم كمجموعات لاتفاق في كثير من الصفات فمنهم رواة ذوو طابع ديني ومنهم ذوو طابع علمي وكل واحد منهم ينقسم بدوره إلى مجموعة من الرواة فمثلًا الرواة الدينون منقسمون إلى فرعين رئيسيين أحدهم دين سماوي وآخر غير سماوي وما زال الانقسام بين رواة الطابع الديني تحت كل قسم منهم، والأمر لا يختلف في القسم الآخر ألا وهو الرواة ذات الطابع العلمي فهؤلاء لا ينقسمون إلى قسمين رئيسيين وإنما كل طائفة منهما بمفردها قائمة لا ترتبط مع الأخرى عادة كالرواة الفلكيين ورواة الجيولوجيين والإحيائيين وغيرهم من أقسام العلوم.
إذا ما نظرنا إلى كل راو بمفرده دون التطرق لرواية الآخرين وبحثنا فيها وفعلنا مثل ذلك مع كل الرواة ربما لا يسعنا سوى حياة كالتي نحياها لذكر ذلك لا طاقة لشخص ولا مجموعة من الأفراد بحث كذلك، وإنما سوف نقوم بسرد جزء من رواة بعض الرواة وليس جميعهم فكل من عاش في الحياة ذكر رواية أو كان جزء من رواية أخرى.
رغم كل هذا التقديم ما زلت لم أتعرض للبدايات، البدايات التي شكلت وجودنا وواقعنا الآن لن نتعرض هنا للإجابة على سؤال أيهما أصح أو أيهما أقرب للحقيقة، وإنما علي الآن ذكر الراوية التي لا يزال هناك أثر لها في الواقع، الرواية التي تهمنا هي تلك الرواية التي لها أتباع أو مؤمنون بحدوثها، ولاختلاف عدد الأتباع لها اختلفت أهمية الرواية نفسها كل على قدر أتباعها الذين يؤثرون في الواقع الآن.
اقرأ أيضًا: ماذا يعود على العالم من جلسات مجلس الأمن؟
كتب: مصطفى رجب.