تحدثت الدكتورة ناجية الوريمي بوعجيلة، أستاذة الحضارة العربية الإسلامية في الجامعة التونسية، عن مبدأ التسامح وتجربتي البرامكة والمأمون، قائلةً: “في هاتين التجربتَين في الحقيقة حاولت أن أكشف عن بعض الخصوصية التي تجاهلتها حتى الدراسات الحديثة.
لماذا نكب الرشيد البرامكة؟
قالت الوريمي لبرنامج في الاستشراق، عبر منصة مجتمع: “تجربة البرامكة اختزلت في مصطلح شاع وهو نكبة البرامكة، لماذا نكب البرامكة؟ لماذا نكبهم الرشيد؟ الإجابات الشائعة والمتداولة إلى اليوم هي من قبيل إن أصلهم من الفرس، وهناك صراع فارسي- عربي، ولذلك فإن العصبية العربية قد تغلبت على هذا المنافس أو نجد تفسيرًا أخلاقيًا يتعلق بعلاقة خناق بين جعفر البرمكي والعباسة أخت هارون الرشيد، وعندما علم الرشيد بهذه العلاقة نكب جعفر ومن ورائه البرامكة.
وأضافت “نجد تفسيرًا مذهبيًا هو أن لهم نزوع شيعي، والرشيد انتبه إلى ذلك باعتباره ممثل أهل السُّنة، فنكب البرامكة، تجد تفسيرًا دينيًا.. أنهم تظاهروا بالإسلام ولكنهم في الحقيقة ظلوا يضمرون ديانة المجوسية ممثلة في عبادة النار.. إلى غير ذلك من التفاسير، وأعتقد أن كل هذه التفاسير لا يمكن أن تجيب عن حقيقة الظاهرة، ما هذه الظاهرة؟ أولًا الرشيد لم يقم بمعاقبتهم جميعًا؛ عاقبَ قسمًا منهم، أعلامًا من البرامكة، ثانيًا مع هؤلاء عاقب عمه عبد الملك بن صالح، مع هؤلاء عاقب علماء الكلام المعتزلة خصوصًا، وأحدث سجونًا سماها بسجون الزنادقة، وسجن فيها علماء الكلام”.
وتابعت “كل التفاسير التي استعرضتها، والشائعة التي استعرضتها منذ حين، لا تجيب عن هذا السؤال إذا كانت الأزمة عرقية في فرس، عرب، فما سبب وجود عبد الملك بن صالح عم هارون الرشيد العباسي، إذا كانت المسألة أخلاقية؟ فما سبب وجود علماء الكلام الذين عوقبوا وسجنوا في سجون سُميت باسمهم، سجون الزنادقة؟ مع العلم أن ليلة قتل جعفر البرمكي قُتل معه عالم كلام، أنس بن أبي شيخ، يعني نجد هناك عقوبة حلَّت بسائس، وهو جعفر البرمكي، وبعالم كلام..”.
اقرأ أيضًا: طائفة الحشاشين (الجزء الاول).. جذورهم الإسماعيلية وتحدياتهم السياسية
الأبعاد الثقافية والاجتماعية لنكب البرامكة:
استكملت أستاذة الحضارة العربية الإسلامية: “المسألة أعمق بكثير من هذه الإجابات التي أعتقد أن الثقافة الرسمية هي التي سعت إلى تكريسها وحرصت على إعادة إنتاجها، لماذا نبرر هذا العمل الذي قام به هارون الرشيد الذي اعتبر أكبر مدافع عن الفكر السُّني وعن أهل السُّنة، والذي منع الجدلَ، والذي حمى الدين من البدعة.. إلى غير ذلك، عندما نطرح مختلف هذه الأسئلة، نصل إلى أنهم اتبعوا سياسة متسامحة لم ترتضِ عنها السلطة الدينية الناشئة؛ سلطة أصحاب الحديث، ولم ترض عنها السلطة السياسية التقليدية ممثلة في مؤسسة الخلافة العباسية.
واستطردت “عندما حاولوا أن أتتبع سياستهم في تلك الفترة؛ أولًا وجدت إشادة بها لدى الجميع دون استثناء، هناك إشادة بإتاحة الفرصة لكل مكونات المجتمع العقدية والعرقية؛ يعني أن مجالسهم كان فيها علماء ينتمون إلى مذاهب مختلفة، مجالسهم كان فيها فلاسفة، والفلسفة كانت في بداياتها؛ كانت في بداياتها وهم الذين رعوا بدايات ترجمة الفلسفة، البرامكة فتحوا الأبواب لعلماء الكلام الذين اضطهدوا منذ العصر الأموي، أيضًا فتحوا الأبواب لأصحاب الديانات غير الإسلامية، واستعانوا بهم”.
وتابعت “هذا لا يعني أنهم قد أبعدوا العلوم الدينية الناشئة أيضًا في تلك الفترة؛ مثل علم الحديث والتفسير، بالعكس يعني الطريف والعجيب في ما نجده من تجربتهم هو أن أصوات الجميع كانت تسمع، يعني نجد صوت المتكلم، صوت الفقيه، صوت المفسر، صوت صاحب النحلة، صوت ممثل ديانة معينة؛ لماذا؟ لأنهم كانوا يصدرون عن تصور عقلي لإدارة المجتمع، وهو أن هذا الأمن الاجتماعي يمكن أن يوفِّر أسبابَ الاستقرار للدولة، وبالفعل هذا ما كان عندما نبحث في أسباب نكبة البرامكة، نجد أن هناك تحركًا من أصحاب الحديث به أرادوا أن ينبهوا هارون الرشيد إلى خطورة هذه السياسة التي اختارها البرامكة، وهناك مراسلات بين هارون الرشيد وبين بعض هؤلاء المحدثين”.
واختتمت الوريمي حديثها، قائلةً: “فضلًا عن ذلك كان هؤلاء يرتادون بلاط هارون الرشيد، ويبدو أنهم هم الذين أقنعوه بأن سياسة الدولة الثقافية تسير في الاتجاه غير الذي ترضي عنه المؤسسة الدينية الناشئة أيضًا؛ فكانت نكبة البرامكة، نكبة البرامكة وعلماء الكلام هي نكبة التسامح في نظري، وكل التفاسير الأخرى التي ما زلنا نرددها إلى اليوم، ينبغي أن نعيد فيها النظر؛ لأنها لا تستقيم أمام استحضار كل المعطيات التي حفت بهذه الظاهرة.
والعجيب العجيب أننا نجد ما سميته أدبًا مدحيًا في البرامكة، متى وضع؟ وضع بعد إلحاق النكبة بهم؛ لأنه لو وضع وهم موجودون في السلطة، سنقول إنه تملق وتزلف لغير ذلك، هناك أدب مدحي في البرامكة جاء بعد نكبة البرامكة؛ هذا دليل على الأصداء الإيجابية التي كانت لتجربة التسامح في الأوساط الاجتماعية لدى مكونات المجتمع بمختلف أطيافها؛ باستثناء هؤلاء مَن يمكن أن نسميهم برجال الدين أو بالمحدثين الذين رأوا في هذه التجربة خروجًا عن التقاليد الصارمة التي تفرض أن يرعى صاحب السلطة مَن هم يمثلون الديانة الحق والمذهب الحق، وهم أصحاب الحديث أنفسهم”.
اقرأ أيضًا: الحشاشين (الجزء الرابع).. حكاية طائفة غامضة هزت العالم
شاهد أيضًا:
كتب: محمد بلال.