في عالم الأغنية المصرية، لطالما تميزت الفنانة نجاة الصغيرة بإحساسها المرهف وصوتها العذب الذي يأخذ المستمع في رحلة رومانسية هادئة، لكن في لحظة غير متوقعة، قلبت أغنية شعبية من غناء شادية دلوعة السينما المصرية كل التوقعات، ودفعت نجاة الصغيرة للبحث عن تحدٍ جديد، كيف تحولت غيرة فنية إلى إبداع جديد؟ تعالوا نكتشف القصة وراء أغنية (ساكن قصادي وبحبه)، وكيف واجهت نجاة الصغيرة التحدي بخطوات واثقة ورؤية جديدة.
شادية ونجاة الصغيرة:
الفنانة والمطربة نجاة الصغيرة، صاحبة الإحساس المرهف، والصوت العذب الرقيق الذي لم ولن يتكرر، صوتها يبحر مع المستمع إلى حيث تريد، في جو رومانسي هادئ وجميل، في أحد الأيام استمعت نجاة عبر الراديو إلى أغنية (مين قالك تسكن في حارتنا تشغلنا وتقل راحتنا) التي غنتها شادية، دلوعة السينما المصرية، التي لا يقل صوتها روعة وجمالًا وعذوبة عن صوت نحاة، ولكن في تلك اللحظة بدأت نجاة تتحرك ذهابًا وإيابًا في الغرفة، ولم تصدق أنها شادية في البداية، لدرجة أنها اتصلت بعدد من أصدقائها للتأكد من أنها شادية بالفعل، التي كانت معروفة بالأغاني الرومانسية، كيف لها أن تغني مثل هذا اللون الشعبي الجديد على الأذان؟، وكانت الصدمة لنجاة بعد أن أكد لها الجميع أنها شادية وأن الأغنية ناجحة جدًا ومكسرة الدنيا.
اقرأ أيضًا: عودة السحر.. نجاة الصغيرة تخلق لحظات لا تُنسى في بكر الشدي
في تلك الفترة، كانت نجاة الصغيرة قد غنت أغنيات مثل (بان عليا حبه)، و(غريبة منسية)، و(كلمني عن بكره وابعد عن إمبارح) وهو اللون الرومانسي الراقي الذي كانت معروفة به، لكنها شعرت بالغيرة الفنية من شادية، والنجاح الكبير الذي حققته بهذا اللون الشعبي الجديد، خاصة وأن الأغنية تحكي حدوته درامية خفيفة ومصورة، وكأنها قصة قصيرة لها بداية ووسط ونهاية، ولما سألت عن كاتبها عرفت أنه الشاعر الغنائي المعروف وصديقها القريب حسين السيد.
فاتصلت به ودون مقدمات قالت له: “عايزة حاجة زي غنوة شادية”، فرد عليها حسين ضاحكًا: “إيه يا نوجة، بدأنا نغير ولا إيه؟”، فأجابته: “لا والله مش غيرة ولا حاجة، بس عايزه أغير في نوعية الأغاني بتاعتي شوية”، ليرد عليها بقوله: “بس أنتِ ملكيش في الشعبي خالص يا نوجة، صوتك مايمشيش للسكة دي”، ولكن وبتصميم طفلة صغيرة تعلقت بلعبة أعجبتها، ردت نجاة الصغيرة بعفوية شديدة وقالت: “مليش دعوة، اتصرف، عايزة أغنية الناس تشوفها وهي بتسمعها”، وأُعجب الشاعر بهذا الوصف والتعبير، وقال لها: “خلاص يا نوجة، سيبيني يومين وأشوف هاكتب إيه”، وانتهت المكالمة عند ذلك.
اقرأ أيضًا: في عيد ميلادها ال٩٠ … آدم تحتفل بميلاد شادية مصر.. الفنانة شادية
حسين السيد يكتب ساكن قصادي وبحبه:
لم تستطع نجاة الصغيرة النوم لمدة يومين، حتى اتصلت بصديقها حسين السيد وسألته: “كتبتها يا جميل؟”، ودهش حسين من استعجالها، ورد قائلًا: “يا نوجة بقولك سيبيني يومين، مش قصدي 48 ساعة، يومين يعني شوية كده أشوف اللي يليق عليكي”، وكان الوقت يمر بطيئًا مملًا على نجاة، إلى أن فوجئت بعد أسبوع باتصال من حسين، وبدأ بسؤالها ساخرًا: “إيه حكايتك مع ابن الجيران اللي كان ساكن قصادك؟”.
وهنا ارتبكت نجاة، وشعرت بدهشة ممزوجة بخجل وردت: “إيه ده، مين قالك على الحكاية دي؟”، فرد عليها ضاحكًا: “أنتِ اللي قولتي دلوقتي، يعني فيه حكاية بقى بجد وأنا معرفش”، فسألته نجاة: “إيه حكايتك يا حسين، أنت بتوهني في الكلام عشان مسألكش عملت إيه في الأغنية؟”، ليرد عليها ضاحكًا: “يا عبيطة، ما هي دي الأغنية، واسمعها كلمات الأغنية: ساكن قصادي وبحبه، وأتمنى أقابله.. فكرت أصارحه.. لكن أبدًا مقدرشي أقوله أقوله”، وهنا صرخت نجاة بجنون: “حبيب قلبي مش هينفع أسمعها في التليفون، ساعة وأكون عندك، واعمل حسابي على العشاء”.
وفي المساء، وبمجرد أن دخلت نجاة شقة حسين السيد، التقطت الورقة من يده، وقرأت: “وفي يوم صحيت على صوت فرح بصيت من الشباك.. زينة وتهاني وناس كتير دايرين هنا وهناك.. شاورولي بإيدهم وقالولي عقبالك”، فنظر حسين لتعبيرات وجه نجاة وعينيها تضحك مع جملة عقبالك، واستكملت الكلمات: “هللت من الفرحة وسألت، قالوا جارك.. حبيبي حبيبي.. اللي ساكن قصادي وبحبه”، وهنا لم تستطع استكمال بقية الكلمات، وأكملها حسين بالتبادل معها، وبعد أن هدأت نجاة ومسحت دموعها، قالت لحسين: “هات التليفون”، فسألها: “هتكلمي مين؟”، أجابت: “الأستاذ.. ده هيتجنن لما يسمعها”، رد عليها: “تقصدي عبد الوهاب؟”، فأجابته بلهفة: “وهو فيه غيره يخرج الأغنية دي”.
رد عليها مداعبًا: “قصدك يلحن مش يخرج”، قالت: “أنت فاهمني وعملت اللي نفسي فيه، دي مش أغنية، دي فيلم، الناس هتشوفه وهي بتسمعني”، رد عليها: “برافو عليكي، بس دي مسئولية عليكي يا نوجة، محتاجة تخليهم يشوفوا بصوتك، اللي مش شايفينه بعنيهم”، فأجابت بلهفة: “طيب فين التليفون؟”، وهنا كانت المفاجأة عندما قال حسين: “مش محتاجة تكلميه، الأغنية عنده وبيلحنها لكِ”، وهنا لم تتمالك نجاة الصغيرة نفسها وقفزت كطفلة كافأها أحدهم بقطعة حلوى، وقالت: “والمصحف بتتكلم جد؟”، أجاب مبتسمًا: “والمصحف الشريف بعتها له إمبارح وعجبته جدًا، ومن غير ما أقوله الأغنية كاتبها لمين، قال لي هي دي بتاعت نجاة، دي مرسومة عليها”.
اقرأ أيضًا: موسيقار الأجيال.. محمد عبد الوهاب ورحلته الفنية الخالدة
إصدار أغنية ساكن قصادي وبحبه:
في عام 1963م، غنت نجاة الصغيرة الأغنية بحب وإحساس وعذوبة، وتحملت المسئولية التي ألقاها حسين السيد على عاتقها، ونجحت الأغنية نجاحًا كبيرًا فاق كل التوقعات، وقال عنها النقاد أنها أغنية تعشقها وتتفاعل معها، وأنها تكاد تكون الأغنية الوحيدة التي تراها وأنت تسمعها، بدايتها مبهجة، ونهايتها موجعة وفي وسطها أحداث ودموع وآلام، وختامها ساكن في قلبي وساكن قصادي وبحبه.
وهكذا عزيزي القارئ، لا يمكننا القول إننا كنا مع أغنية، بل إننا كنا مع أحداث حكاية اسمها (ساكن قصادي وبحبه)، الأغنية التي جعلتنا نرى حقًا صوت نجاة الصغيرة ونحن نسمعها.
اقرأ أيضًا: في مثل هذا اليوم رحل العندليب الاسمر
كتبت: سحر علي.