تتجدد ذكريات الهجرة النبوية في رحاب العام الهجري الجديد في حياة أمة الخير والفضل، فقد مر على الحدث الأخطر والأجل في تاريخ الأمة، ألا وهو الهجرة النبوية ألف وأربعمئة وستة وأربعون عامًا، هاجرت الأمة في تلك السنوات، تارة في سبيل الله، وأخرى في سبيل الهوى والشيطان.
ويتجدد مع كل عام هجري حديث الخطباء والوعاظ، فمنهم من يقص على الناس سيرة الهجرة النبوية بأحداثها وتفاصيلها؛ ليكرر ما ذكره كُتاب السير في سيرهم، وكأنه كتاب مسموع، ومنهم من يركز على الشخصيات الفدائية فيناقش تضحياتهم وأثرها في حياة الأتباع، ومنهم من يذكر للناس دروسها وعبرها؛ رغبة في التغيير، ومنهم من يضع يده على الوصايا العملية للهجرة العصرية، وكلٌّ يسعى لتقديم الدين للخلق، ولكن هذا العام في حديث خاص مع الدكتور عادل هندي أستاذ مساعد في كلية الدعوة الإسلامية بجامعة الأزهر، دعونا اليوم لنقف مع هذا الحادث الأغر، من خلال هذه العناصر التالية:
- أولًا: الهجرة النبوية للبناء.
- ثانيًا: دروس في رحاب الهجرة النبوية.
- ثالثًا: الهجرة العصرية التي ينشدها الإسلام.


الدكتور عادل هندي
اقرأ أيضًا: في العام الهجري الجديد .. كيف تهاجر إلى الله ورسوله؟
أولًا الهجرة النبوية للبناء:
كانت الهجرة النبوية نموذجًا للتربية والتدريب على ترك ملذات الدنيا الفانية؛ رغبة فيما يبقى عند رب العالمين، لقد كانت سبيلًا للإعلان التاريخي بأن عقيدة المسلم أجل من وطنه وكان نشأته، فقد وقف -عليه الصلاة والسلام- على مشارف مكة يوم خرج منها، وهو يردد: “مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ، وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ، وَلَوْلَا أنّ أهلك أخرجوني منك ما سكنتُ غيرَك” رواه الترمذي، وقال: “هَذَا حَدِيثٌ حَسن”، إنها لحظة قاسية، لكن الذي وراءها عظيم الشأن يستحق كل تضحية.
إن كثيرًا ممن يتحدثون عن رحلة الهجرة النبوية وكنت واحدًا منهم يومًا ما، يصورون للناس أن رحلة الهجرة النبوية كانت فرارًا بالدين من مكة التي عذب أهلها أهل الإيمان والدين، غير أن الحق ما صورته السيرة ذاتها، أنها لم تكن هجرة من مكة، بل كانت هجرة لها ومن أجلها، حيث كانت:
- الهجرة النبوية طريقًا لتخليص المؤمنين من حالة العوز وقلة الأمن والأمان.
- الهجرة النبوية سبيلًا لبناء دولة إسلامية مؤمنة بربها، تسعى لتطبيق ونشر الدين في الأرض.
- الهجرة النبوية بداية الانطلاق بالدين خارج حدود نشأته، وأنه دين عالمي لا ينحصر في زمان ولا مكان.
- الهجرة النبوية إعلان للعقيدة بأن رجالها لا ييأسون من روح الله، ولا يتوقفون عن نشر الخير في الأرض.
- الهجرة النبوية لم تكن عبارة عن مغادرة مكان أظلم بعض الوقت، بل مغادرة لكل ظلم وهوى وعصيان.
الهجرة النبوية للبناء
- الهجرة النبوية فتحًا جديدًا لدعوة رب العالمين، ففتحت آفاقًا جديدة لتاريخ الأمة (حيث الماضي التليد، والحاضر المؤلم، والمستقبل المشرق).
- الهجرة النبوية حلقة من حلقات الصراع بين الحق والباطل، حيث ينتصر الحق بشخوصه ومبادئه وإن طال الزمان، وصدق الله العلي القدير إذ يقول: “وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً” [النساء: 100]، فهاجَرُوا والتمَسُوا الطريق إلى الله، فقادهم نحو الرشاد، وكانت الهجرة سببًا في قلب موازين التاريخ، وتغيير وجه البشريّة.
- الهجرة النبوية هي الحد الفاصل بين الذل والعز، بين الضعف والقوة، بين الهزيمة والانتصار، إنها حد فاصل في تاريخ الإسلام والدعوة إلى الله تعالى، بل كانت حدًا فاصلًا في حياة البشرية، حيث إقرار الحق والعدل، وإقامة التعايش السلمي بين البشر، ودعم أسس البناء الحضاري للأمة وعمران الأرض، محققة بذلك صلاح الدنيا بالدين.
- الهجرة النبوية رسالة لمن يجبرون الناس على ترك أوطانهم؛ رغبة في لقمة عيش أو تحقيق أمان، فتحافظ الأوطان على أبنائها أولًا؛ ليحافظ الأبناء على أوطانهم.
- الهجرة النبوية رسالة إلى اليائسين والبائسين، وفاقدي الأمل، قد يظلم الطريق أحيانًا، غير أن النور سيلحقه يومًا ما، وصدق الله إذ يقول: “وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ” [يوسف: 87].
ثانيًا دروس في رحاب الهجرة النبوية:
لقد مضت الدعوة منذ لحظاتها الأولى نحو تغيير الواقع المر الأليم، وتربية الأجيال على الخُلق القويم، ونشر الإيجابية في إصلاح الأرض وتعميرها كما أراد رب العالمين: “هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا” [هود: 61]، ورغم عِظم الهدف الذي حرك النبي وأصحابه، إلا أن أعداء الحق لم يألوا جهدًا في تعذيبهم والتآمر عليهم، والتضييق عليهم في حرياتهم، فصادروا الأموال، وشوهوا الصورة الحسنة للرجال والنساء، وعمدوا إلى الحصار والمقاطعة الاقتصادية والاجتماعية، وعملوا على تجفيف منابع المساندة للحق من داخل مكة وخارجها في أرض الحبشة وغيرها، وشمتوا بالرسول يوم عاد من الطائف مكلومًا حزينًا، إلى أن شاء الله التسلية والتسرية عن رسوله وحبيبه، وعن المستضعفين من عباد الله، فأذِن بهجرته الشريفة؛ ليعلن للدنيا الدين الحق.
وتحقق للنبي القائد -صلى الله عليه وسلم- ما أراد وطلب وتمنى، حتى عاد يومًا إلى مكة فاتحًا، فبعد أن غادرها مهاجرًا مطرودًا حزينًا أسيفًا، وأُجبر على تركها، ها هي لحظة الانتصار والفتح، وقد تواضع لربه يشكره ويدعوه أن يقبل منه ويتقبله، ومضت رحلة الهجرة النبوية نحو طريقها تشق الغبار والصحراء والمؤامرات، حتى أذن الله بطلوع البدر على المدينة؛ ليشرق أرجاء المعمورة كلها، وإن الأمة التي لا تحسن قراءة ماضيها، لا يمكنها تجاوز صعوبات وأزمات الحاضر، ولا تستطيع صناعة المستقبل الباهر، فكان لا بد من تلمس عبر الهجرة النبوية وتعلم الدرر الفاعلة، فلهجرته -صلى الله عليه وسلّم- دروس وعبر نستلهمها ونعيش في ضوء نورها على النحو التالي:
-
الأخذ بالأسباب مع التوكل على الله واستشعار لذة المعية الإلهية:
قانون غاب عن أذهان كثير من شباب الأمة، فأغلبهم اعتمد على انتظار الرزق يأتيه دون حركة أو سعي، والله أمرنا بحسن السير والبحث في كونه عز وجل، فقال: “هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ” [الملك: 15]، وقد علمتنا رحلة الهجرة هذا القانون الكوني، أن نأخذ بكل سبب ممكن ومتاح وشرعي للوصول للأهداف والغايات المنشودة، وهذا هو عين التوكل على الله، وربما وقع في رحلة الهجرة النبوية أحداث تثبت أن من وراء الأسباب مسببها، وأن الأمر بيده؛ حتى لا يتعلق العبد بالسبب وينسى رب السبب، فوقف المشركون على باب الرسول وكادوا أن يقتلوه لولا خروجه وفقًا لما أراده الله ومبيت سيدنا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- مكانه، ووصول المشركين إلى فم الغار رغم الأخذ بالأسباب، ووصول سراقة خلف الرسول وصحبه، ورغم كل هذا إلا أن الرب العلي الرحيم لطف بحبيبه، حين أعمى أعينهم على بابه أثناء خروجه، وأعمى أعينهم عند فم غار ثور، وهدأ من شهوة الثراء في نفس سراقة فكتم الخبر عن القوم، فيجب أن يكون اعتمادنا دائمًا على الله.
الأخذ بالأسباب مع التوكل على الله واستشعار لذة المعية الإلهية
-
الأمل والثقة في نصر الله وأن النصر مع الصبر:
حتى في أشد ساعات الليل ظلمة، فإن من وراء الظلمة يأتي النور، ومع العسر يأتي يسران، ومن باطن المحنة تتولد المنحة، وقد رأينا ما يؤكد ذلك عمليًا من خلال رحلة الهجرة النبوية، بل ومن قبلها، فهذا رسولنا يبث الأمل في نفس الخباب بعد أن طاله من العذاب ما لحق به، قائلًا له ولنا من بعده: “وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ”، وها هو -صلى الله عليه وسلم- يبث الأمل ولديه من اليقين ما ينشر به أمله في نفس صاحبه الصديق: (لا تحزن)، (ما ظنك باثنين الله ثالثهما)، بل ووصل الأمر إلى أن حركه اليقين ببث الأمل في نفس مشرك كسراقة قبل الإسلام، كمثل قوله له كما عند البيهقي في السنن، “كَأَنِّي بِكَ قَدْ لَبِسْتَ سُوَارَيْ كِسْرَى”، يقول له هذه الكلمات وهو مطارد مهاجر مطرود من بلده، إنها الثقة في نصر الله، اليقين في وعد الله.
اقرأ أيضًا: هجرة النور.. إليك مظاهر الاحتفال برأس السنة الهجرية في الدول العربية
-
الحرص على الصحبة الصالحة:
إن المسلم أحوج ما يكون إلى صحبة صالحة تأخذ بيده للخير، وتصرفه عن الشر، في الرخاء وفي الشدة، يجد منها في الرخاء عونًا على الطاعة، وفي الشدة تثبيتًا عليها، وقد أعلن النبي أن الصحبة الصالحة هي الحل في نجاح المسلم ووصوله إلى أهدافه، حين صحب أبا بكر (إنها الصحبة)، ولماذا الصحبة؟ لأنه كما أخبرنا رسولنا الحبيب: “فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ”.
-
حسن التخطيط وتوظيف الطاقات:
فقد امتلأت رحلة الهجرة بكثير من مواقف التخطيط الجيد، بل صار نموذج الهجرة بكامل أحداثه سببًا لتعلم الأمة التخطيط وحسن توظيف الأدوار والطاقات، فأسماء امرأة تصنع الطعام وتذهب به إلى الرسول وأبيها، ولماذا امرأة؟ حتى لا يشك فيها أحد، كما أن عبد الله بن أبي بكر يأتي بالأخبار، ولا عجب فهو شاب صغير ويمكنه أن يتسمع الأخبار بعكس امرأة كأسماء، وعلي ينام مكانه، وابن أريقط يزيل آثار أقدام المترددين عليهما، ودليل مشرك خبير يعرف الطرق ومسالكها ودروبها (ابن فهيرة)، وهكذا فلتتعلم الأمة وتخرج من إطار عشوائيتها التي جعلتها تبعًا لغيرها اليوم، ولم تعد قادرة على أن تكون صاحبة قرار ولا حول ولا قوة إلا بالله.
-
كن قدوة ولو كنت زعيمًا أو قائدًا:
نعم لقد كان رسولنا هو أكمل البشر وسيد الأنبياء والرسل، لكن موضعه من القيمة والقامة الربانية الموضوعة له في الأرض، لم تجعله يومًا حاشاه متكبرًا أو غليظًا أو مرتفعًا على الناس، بل كان يتعب كما تعب أصحابه، ويعذب كما عذبوا، ويهاجر كما يهاجرون، ويطارد كما يطارد المستضعفون، وهكذا هو القائد القدوة، يشارك أتباع الجوع والعطش كما كان في خبر الخندق وحفره، ويشاركهم بناء المسجد، ويشاركهم المعارك، ولم يكتف بتتبع الأخبار من غرف مكيفة أو قاعات مجهزة، حتى كاد أن يقتل يوم أحد، ولكن عناية الرحمن أيدته، وصارت محبته في كل قلب.
-
الدعوة لا يحدها زمان ولا مكان ولا يعطلها إنسان:
الداعي إلى الله لا يضيع أي فرصة تأتيه لصالح دعوته؛ لأن الدعوة رسالة الله للبشر في كل مكان وفي أي زمان، ولذا لاحظنا من رحلة الهجرة النبوية أن النبي قبلها بقليل خرج إلى الطائف داعيًا إلى الله فأبى القوم ونكثوا على النخوة والرجولة والعروبة، ولم يتوقف رسول الله عن الحركة، وخرج من بلده ليبلغ رسالة ربه، فيا أيها الدعاة لا تتوقفوا بدعوتكم عن الانتشار، بشرط ألا تميلوا أو تنحرفوا بها عن مسارها الطبيعي الذي جاءت من أجله في تعبيد الناس لربهم وتعمير الأرض، ولنا في نبي الله يوسف السجين الدرس والعبرة، منع من المنابر الدعوية، فلم تتوقف دعوة حتى وهو في باطن عنابر السجون.
-
حب الصديق لصاحبه الرسول -صلى الله عليه وسلّم-:
لقد ثبت يقينًا من خلال رحلة الهجرة النبوية المباركة مدى محبة الصديق أبي بكر لصاحبه الرسول، ومدى شفقته عليه، ومدى رغبته في صحبته والسير معه في الطريق، فكم وكم صبر أبي بكر على مرافقته وصحبته، ولذا صار أعز الناس وأكرم الخلق على الخالق بعد رسل الله -عليهم الصلاة والسلام-، والناظر في سيرته الشريفة يراه وقد تفانى وضحى بماله ووقته ونفسه وأهل بيته، فله منا أكمل الدعوات بالرضوان وكمال رحمة الله به، وهكذا ينبغي أن تكون المحبة الحقيقية في الله، فكما في موقفه الشريف ورسول الله في الهجرة معه، يشرب اللبن، فاسمع ماذا يقول أبو بكر: “فشرب رسول الله حتى ارتويت”.
-
المرأة صاحبة دور عظيم في تاريخ الإسلام:
فإلى الذين يتهمون الإسلام بهضم حق المرأة، تعالوا بنظرة بسيطة يسيرة في السيرة النبوية بحلقاتها وفصولها نكتشف عظم الدور الذي بذلته المرأة المسلمة، ومدى عناية الإسلام بمكانتها وتقديره لشأنها، فأسماء ذات النطاقين ضربت لنا وللنساء أروع مثال ونموذج للمرأة العاملة المجدة المُجتهدة، صاحبة البذل والعطاء والتضحية، ولا تجد مثل هذا النموذج في الدنيا كلها، وحري بكل امرأة مسلمة اليوم أن تسأل نفسها عما قدمته لدين الله، أم أتراها تسكن بيتها أو تأكل وتشرب ولا أثر لها في مجتمعها وأسرتها، فلتتخذ من أسماء السامية ومثيلاتها النموذج القدوة.
-
عظم دور المسجد في حياة الأُمة:
بعد الهجرة النبوية ووصول القائد إلى حيث مستقر الدعوة والدولة (المدينة الطيبة) قام يبني ويؤسس لأهم مؤسسة في تاريخ الأمة، ودون القيام بحقها ومساندتها في دورها الأساس لا قيمة للأمة الإسلامية، فلا يليق بنا أن نهمل دور هذه المؤسسة وغيرنا يجعل من كنائسه ومعابده مؤسسات فاعلة في المجتمع بكل ما تعنيه الكلمة، بنى الرسول -صلى الله عليه وسلّم- المسجد وأسسه على أسس متينة؛ رغبة في تجميع الصف والكلمة، وتثقيف أبناء الأمة، وتوحيد الصف المسلم، وحل المشكلات، وتجييش الجيوش، واستقبال الوفود السياسية فيه، فهو الدار الأم والبيت الأكبر للمسلمين، وينبغي أن يعود إليه دوره من جديد، ولذا توعد الله من يحاربون بيوته في أرضه ويعملون على تعطيلها عن أداء دورها، فقال سبحانه: “وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ” [البقرة: 114].
-
الهجرة من الكسل والخمول إلى العمل والإنتاج:
يقول مولانا الأكرم: “وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ” [التوبة: 105]، والمأمور به في الشريعة ليس حد العمل فحسب، بل إتقانه وإتمامه على وجه حسن، ففي الحديث: “إِنَّ اللهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلَا أَنْ يُتْقِنَهُ”، وفي الإسلام ما يدلِّل على هجران الكسل والبطالة، فعند البخاري في الصحيح عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ، مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “لَأَنْ يَحْتَطِبَ حُزْمَةً عَلَى ظَهْرِهِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ أَحَدًا، فَيُعْطِيَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ”، فنريد هجرة حقيقية نحو العمل وجدية الإنتاج والبذل، دينيًا وعرفيًا ووطنيًا.
اقرأ أيضًا: ليلة النصف من شعبان.. بوابة الفضائل والاحتفالات الروحية
ثالثًا الهجرة العصرية التي ينشدها الإسلام:
لا شك أن الهجرة الحقيقية العصرية لها أشكال، فمن سار عليها رشد وأرشد وكان من المهاجرين في سبيل الله، ومن وقف في طريقها فسد وأفسد وكان مهاجرًا في سبيل الشيطان، وخروجًا من دائرة الهجرة في سبيل الشيطان، فعلينا بتحقيق الهجرة الآتية:
-
هجرة من الجسد إلى الروح:
لقد استهلكت الدنيا كثيرًا من عابديها، فضحت عليهم بزخارفها، وصاروا أسرى لها لا يهتدون إلا بهديها، ولا يتحركون إلا برغبتها، وبئست المعيشة هذه، لا بد من هجرة حقيقية من احتياجات الجسد الفانية إلى احتياجات الروح الباقية.
-
هجرة من الذنوب إلى التوبة:
لن تصح هذه الهجرة إلا بهجرة العصاة والمعاصي، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلّم-: “والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه”، وأمر الله نبيه بقوله: “واهجرهم هجرًا جميلاً”، وتلك هي التوبة الصادقة، لا الكاذبة المزيفة، وهي الهجرة المنشودة، فكما عند أبي داوود في السنن عن عبد الله بن حُبْشي الخَثْعميِّ: “أن النبيَّ -صلَّى الله عليه وسلم- سئل: أيُّ الأعمالِ أفضلُ؟ قال: “طولُ القيام” قيل: فأيُّ الصدقة أفضل؟ قال: “جُهدُ المُقِلِّ” قيل: فأيُّ الهِجرة أفضلُ؟ قال: “مَن هَجَرَ ما حَرَّمَ اللهُ عليه” وعند أحمد في المسند: سئل الرسول الحبيب: أيُّ الهجْرة أفضل؟، قال: “أن تَهْجُرَ ما كَرِهَ ربُّك”.
هجرة من الذنوب إلى التوبة
-
هجرة من اليأس إلى الأمل:
إن رحلة الهجرة النبوية المباركة تعلمنا الأمل واليقين في الله تعالى، وأن ما عنده لا يضيع، وكم يزداد الأمل يومًا بعد يوم، فحين كان الخباب المعذب المضطهد الذي اكتوي بالنار في رأسه وجسده يعذب، لم يكن بخاطره أن صاحبة ورشة الحدادة التي كان يعمل بها كما يحكي ابن إسحاق ستمرض في رأسها بمرض لا يهدأ طبيًا، إلا إذا اكتوت بالنار في رأسها بمثل ما كانت تصنعه فيه، ولم تجد من يقوم لها بهذا إلا خادمها الخبّاب -رضي الله عنه-، فسبحان مقلب الأمور، والدنيا دول، ودوام الحال من المُحال، ورسولنا يشتد به الأذى ولم يعدم اليقين والأمل في ربه، فلا تحرم نفسك من رصيد الأمل.
-
هجرة من العشوائية والفوضى إلى التخطيط والنظام:
أمتنا أمة النظام والتخطيط، فحياتها تعبديًا وحياتيًا قائمة على النظام والتخطيط الدقيق؛ في ارتباطها بصلوات محددة في مواعيد محددة، وهكذا في كل عبادات الإسلام، ورحلة الهجرة النبوية درس عظيم في التخطيط ودقته، والتحول من العشوائية في اتخاذ القرارات إلى التنظيم الدقيق لكل قرار وقياسه على الأهداف المنشودة.. الخ.
-
هجرة من الجهل إلى العلم:
نريد هجرة حقيقية من الجهل، في زمن لم يعد للجهلاء قيمة، وحتى صارت القوة ليس فيما تملكه من سلاح فكل هذا يمكن محاربته، ولكن فيما تحمله من علم ووعي وثقافة، ولذا وجدنا شرذمة اسمها (إسرائيل) تنفق ميزانية على التعليم بحجم إنفاق العالم العربي كله على التعليم في بلادنا، فلنهاجر الجهل، ولنعد إلى قانون (اقرأ) اقرأ تمحو الأمية الكتابية والأمية الدينية والأمية في أي مجال نحتاج فيه إلى تعلم.
-
هجرة من التفرق والتشرذم إلى الوحدة والتكامل:
هذا هو عين النصر الحقيقي يوم أن تعود الأمة لوحدتها التي أرادها لها الله بقوله: “إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ” [الأنبياء: 92]، ولم لا نهاجر إلى الله حقًّا بهجرة الفرقة والتشرذم والتصارع والتحارب والتضاد المهين، يقول تعالى محذّرًا: “وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ” [الأنفال: 46].
-
هجرة من الكسل والخمول إلى العمل والإنتاج:
يقول مولانا الأكرم: “وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ” [التوبة: 105]، والمأمور به في الشريعة ليس حد العمل فحسْب؛ بل إتقانه وإتمامه على وجهٍ حسَنٍ؛ ففي الحديث: “إِنَّ اللهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلَا أَنْ يُتْقِنَهُ”، وفي الإسلام ما يدلل على هجران الكسل والبطالة، فعند البخاري في الصحيح عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ، مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “لَأَنْ يَحْتَطِبَ أَحَدُكُمْ حُزْمَةً عَلَى ظَهْرِهِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ أَحَدًا، فَيُعْطِيَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ”، فنريد هجرة حقيقية نحو العمل وجدية الإنتاج والبذل، دينيًا وعرفيًا ووطنيًا.
وأخيرًا كانت هذه أهم الدروس والعبر من الهجرة النبوية المباركة، فالهجرة المنشودة هي الهجرة من الغفلة عن أوضاع الأمة إلى الاهتمام بقضاياها، في ظل الأوضاع الصعبة التي يمر بها المسلمون في أرض فلسطين، وهم إخواننا في الإسلام والأمة والإنسانية والمقدسات والقضايا المصيرية، ومن ثم يجب على كل مسلم ومسلمة نصرتهم والاهتمام بهم، ونشر قضيتهم؛ تحقيقًا لقول نبينا الكريم: “المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضُه بعضًا”.
اقرأ أيضًا: العشر من ذي الحجة.. دليلك لأفضل الأعمال المستحبة فيها
كتبت: نيفين رضا الدميري.