تحتضن مدينة حلب بين أزقتها وحاراتها تاريخًا يمتد لآلاف السنين، يجعلها بموقعها الجغرافي شمال سوريا واحدة من أقدم المدن المأهولة بالسكان في العالم، وتتميز حلب بتراثها الغني وتنوعها الثقافي، حيث تلتقي الحضارات القديمة بالحداثة في مزيج ساحر يجذب الزوار من كل أنحاء العالم، من أسواقها التقليدية التي تعبق برائحة التوابل والعود، إلى قلعتها المهيبة التي تروي قصصًا من الصمود والمجد، تأخذك حلب في رحلة عبر الزمن، لتعيش تجربة سياحية فريدة تتجاوز حدود الخيال سواء كنت من عشاق التاريخ أو الفن المعماري أو محبي التجوال بين الأسواق، فإن حلب تعدك بتجربة لا تُنسى تجمع بين عبق الماضي وروعة الحاضر.
جغرافية مدينة حلب:
تقع مدينة حلب شمال سوريا، ويحدها من الشمال جبال طوروس، وتخوم البادية عند هضبتي حمص وشبيت جنوبًا، ويحدها شرقًا وادي الفرات، ومن الغرب سهول الغور والانهدام، وتبعد حوالي 310 كم عن العاصمة دمشق، ويسودها المناخ المتوسطي المعتدل، أي صيف حار وجاف وشتاء معتدل وممطر، وتتميز مدينة حلب بتنوع تضاريسها، حيث تحيط بها التلال من الجهات الشمالية والشرقية، وتمتد السهول في الجهات الغربية والجنوبية.
وبالنسبة للمياه فيعتبر نهر قويق شريان الحياة الرئيسي في مدينة حلب ومن أهم معالمها الطبيعية، ولكن للأسف انخفض منسوبه بسبب السدود التركية، وتتميز الأراضي المحيطة بمدينة حلب بخصوبتها، مما يجعلها صالحة لزارعة العديد من المحاصيل، وتكمن أهمية موقعها الجغرافي بوجودها على طريق الحرير.
اقرأ أيضًا: في أحضان باريس.. اكتشف سحر المدينة التي لا تنام
تاريخ مدينة حلب:
تعد مدينة حلب واحدة من أقدم المدن المأهولة في العالم، وحسب منظمة اليونسكو للبحوث التاريخية والأثرية هي من أقدم مدن العالم، وثاني أقدم مدينة في سوريا بعد دمشق، وأهم محطات تاريخية لهذه المدينة هي:
- الألفية السادسة ق.م: بدأ الاستيطان البشري في مدينة حلب.
- الألفية الثالثة ق.م: ذكرت مدينة حلب لأول مرة في الكتابات المسمارية.
- العصر البرونزي: كانت عاصمة لمملكة يمحاض الأمورية.
- العصر الحديدي: أصبحت من الإمبراطوريتين الآشورية والبابلية والأخمينية.
- العهد الهيليني والروماني والفارسي: تأثرت مدينة حلب بهذه الحضارات وتوسعت.
- العهد الإسلامي: ازدهرت مدينة حلب بشكل كبير، وأصبحت من أهم المراكز التجارية والثقافية في العالم.
الأسماء التي عرفت بها مدينة حلب:
ذكرت مدينة حلب بالكثير من المخطوطات والوثائق القديمة بعدة أسماء، إذ عرفت باسم أرمان في رُقم مملكة إبلا، وذكرت باسم آران على مسلة نارام سين في ديار بكر، وفي مخلفات مملكة ماري عرفت باسم هيليا، ودعيت حلبو عندما كانت عاصمة لمملكة يمحاض الأمورية، وأطلق عليها الآشوريون خلابا وخلوان، وذكرت باسم خرب في إحدى نصوص الآثار المصرية، وفي إحدى النصوص التي تعود للملك رمسيس الثاني ذكرت باسم خلبو، وفي نص ثان يعود لذات الفترة الزمنية ذكرت باسم حلبو، وعرفت باسم البيرو إبان قيام دولة السلوقيين، وبقيت تحمل هذا الاسم طيلة العصور اليونانية والرومانية والبيزنطية.
يعلل البعض أن تسمية حلب تعود إلى تعريب كلمة حلبا السريانية التي تعني البيضاء، والبعض الآخر علل أن كلمة حلب آرامية وأن الآشوريين والمصريين الأقدمين سموها حلبو، بينما ذكر مؤرخ المدينة خير الدين الأسدي بأن أصل كلمة حلب يعود إلى (حَلْ رب) فتقال (حلْ لَب حيث) أن معنى كلمة (حَلْ) هو المحل وكلمة (لَبْ) هو التجميع فيصبح معنى كلمة حلب هو موضع التجمع، وتلقب مدينة حلب بالشهباء، ويفسر البعض معنى الشهباء بأنه الشهب أي البياض الذي يتخلله السواد، ولقبت به نسبة لبياض تربتها وحجارتها، بينما فسرها البعض بأنها تعود إلى بقرة شهباء قيل أن النبي إبراهيم كان يحلبها فقيل حلب الشهباء، وباللغة الأجنبية يتم استخدام كلمة Aleppo.
اقرأ أيضًا: مدينة فاس.. أسرار تاريخية مذهلة في قلب المغرب
المعالم التاريخية والسياحية في مدينة حلب:
تشتهر مدينة حلب بالأماكن الأثرية ذات القيمة التاريخية العالية التي تمثل عراقة وأصالة المدينة بخصائصها المعمارية الجذابة، التي تجعل من مدينة حلب مقصد سياحي هام، ففيها القلاع والمتاحف والأسواق الأثرية والخانات والمدارس التاريخية العظيمة، بالإضافة إلي العديد من الفنادق ذات التصنيفات المختلفة، ومن أشهر هذه المعالم:
قلعة حلب:
من أكبر وأقدم القلاع في العالم، تقع وسط مدينة حلب القديمة على تل مرتفع يطل على المدينة، كما أنها شهدت على آلاف السنين وعصور عدة، وأظهرت الدلائل الأثرية أن التل الذي قامت عليه القلعة كان مسكونًا منذ العصر الحجري، وتوالت على القلعة حضارات كثيرة منها الآرامية والرومانية والبيزنطية، وشهدت تطورات كثيرة وأصبحت مركزًا إداريًا وعسكريًا في العصرين الأموي والعباسي، ولاقت أوج عظمتها في العصرين الأيوبي والمملوكي، حيث تم تعزيز تحصيناتها وبنائها، بينما استمر العثمانيون في عهدهم باستخدام القلعة كمركز إداري وسياسي.
كما أنها تعتبر تحفة معمارية عبر العصور، ومن أهم ملامح تصميمها المعماري هو شكلها البيضوي الذي تتسم به الذي يوفر لها قوة دفاعية أكبر وقدرة على صد الهجمات من جميع الجهات، وتتميز بالأبراج الشاهقة التي كانت تستخدم لمراقبة الأعداء وإطلاق النار عليهم، ويحيط بالقلعة أسوار ضخمة مبنية من الحجر وتصل سماكتها إلى عدة أمتار مما يعزز حمايتها من الأعداء.
تميزت بوابات القلعة بتصميمها المعماري المعقد والفريد الذي يهدف إلى منع اختراق الأعداء للقلعة، كما تحتوي القلعة على فناءات واسعة وقاعات متعددة الاستخدامات كانت تستخدم للسكن والإدارة والاجتماعات، وتضم القلعة مساجد وحمامات، ويوجد فيها أنفاق سرية تستخدم للهروب والتخفي، ومن أهم عناصرها المعماري الخندق المحيط بها الذي كان يلعب دورًا هامًا في حماية القلعة، وسجلت قلعة حلب على لائحة التراث العالمي لليونسكو في عام 1986م.
اقرأ أيضًا: مدينة طابا.. حكاية أرض مصرية
متاحف حلب:
يوجد في حلب الكثير من المتاحف، منها:
متحف حلب الوطني:
أنشئ متحف حلب الوطني عام 1931م في مدينة حلب، في بداية الأمر اتخذ المتحف قصرًا عثمانيًا مقرًا له، وعندما ضاق البناء على المقتنيات المتحفية تم هدم القصر العثماني وبناء المتحف الجديد بذات المكان، على أن يكون بناء حديث وجميل يليق بمكانة المقتنيات الأثرية الهامة التي يحتويها المتحف وكان هذا عام 1966م.
وتزينت واجهة المتحف بنسخة من واجهة القصر الملكي في تل حلف وهي من القرن التاسع قبل الميلاد، يقسم المتحف إلى خمسة أجنحة قسمت إلى حقب تاريخية معينة، ويتميز المتحف عن غيره من المتاحف العالمية بأن جميع مقتنياته الأثرية سورية، وأهمها هيكل عظمي لطفل إنسان نياندرتال الذي عثر عليه شمال سوريا.
متحف الطب والعلوم (البيمارستان الأرغوني):
أحد أبرز المعالم التاريخية في مدينة حلب القديمة، بني في القرن 14 ميلادي، ويتميز بتصميم معماري فريد يجمع بين العناصر الإسلامية والبيزنطية والمملوكية، وكان البيمارستان مستشفى ضخمة تقدم الرعاية الطبية للمرضى النفسيين من مختلف الطبقات الاجتماعية، وكانت مركزًا للتعليم الطبي، ويضم البيمارستان أقسامًا عديدة مثل الصيدلية، كما أن غرف العناية التي تقسم حسب درجة الحالة النفسية لكل مريض والجامع وسبيل الماء، وفي وقت لاحق أصبح البيمارستان الأرغوني متحفًا للطب والعلوم.
مدارس حلب:
يوجد في مدينة حلب الكثير من المدارس التاريخية التي تشتهر بعمارتها الإسلامية، وتعتبر جزءًا مهمًا من تاريخ المدينة، منها:
- المدرسة الكاملية، التي يعود تاريخ بنائها للقرن السابع للهجرة.
- المدرسة الشاذبختية التي بنيت في القرن الثاني عشر الميلادي، وتتميز بمحرابها الرخامي الرائع.
أسواق حلب:
تعد الأسواق من أبرز معالم مدينة حلب القديمة التي تمثل تاريخ المدينة العريق ومعالمها الحضارية والتجارية، وتمتد هذه الأسواق على مساحة واسعة تضم أسواق متخصصة، حيث يبلغ طول هذه الأسواق 17 كيلومتر، وبذلك هي أطول الأسواق المسقوفة في العالم، ويقدر عددها بحوالي 37 سوقًا، وأشهرها سوق العطارين، والنحاسين، والسقطية الذي كان متخصصًا ببيع اللحوم.
خانات حلب:
الخانات هي مباني ضخمة فيها فناء داخلي ويحيط بها أروقة وأقواس، استخدمت سابقًا كمخازن للبضائع، ومراكز إيواء للتجار والقوافل وتوفير الخدمات لهم كالطعام والشراب والإسطبلات، وتحولت اليوم إلى متحف مفتوح يعكس جمال العمارة الإسلامية، ويعتبر خان الحرير من أشهر هذه الخانات بجمال زخارفه وفسيفسائه، وخان الصابون الذي كان يستخدم لصناعة الصابون.
حمامات حلب:
تعتبر حمامات مدينة حلب مركزًا اجتماعيًا واقتصاديًا وليست فقط أماكن للنظافة، إذ كان يجتمع فيها الناس للاسترخاء والتعارف وتبادل الأحاديث، وتميزت بعمارتها الإسلامية وبقببها الشاهقة وأقواسها الرشيقة والحجارة المنحوتة بدقة، وأشهرها حمام النحاسين الذي يعتبر من أقدم وأكبر الحمامات.
فنادق حلب:
يوجد في مدينة حلب الكثير من الفنادق ذات التصنيفات المختلفة، وأشهرها:
- فندق البارون: هو فندق تاريخي عريق يصنف بـ 4 نجوم، يتألف من ثلاثة طوابق و48 غرفة وجناح واحد ومطعم واحد، يزيد عمره على مئة عام، وتعود أهميته نسبة لزيارة شخصيات تاريخية هامة على مر السنين مما أعطاه قيمة إضافية وسحرًا خاصًا به، ومن أهم هذه الشخصيات، الكاتبة الشهيرة أجاثا كريستي، الملك فيصل بن الحسين والرئيس جمال عبد الناصر.
- فندق شهباء حلب: يعد واحد من أكثر الفنادق الفاخرة في سوريا ويصنف ب 5 نجوم، تم إنشاؤه عام 1989م، يحتوي 240 غرفة وعدة قاعات للمؤتمرات، ونادي رياضي، ومسابح ، وصالات سينمائية، بار وعدد من المطاعم.
تبقى حلب مدينة استثنائية تجمع بين جمال الطبيعة وعراقة التاريخ وروعة الثقافة، إنها ليست مجرد وجهة سياحية، بل هي رحلة إلى قلب الحضارة الإنسانية، حيث تلتقي قصص الماضي مع طموحات المستقبل، زيارة حلب ليست تجربة تقتصر على مشاهدة المعالم السياحية، بل هي فرصة للتعمق في فهم التراث الإنساني والغوص في تفاصيل حياة مجتمع غني بتنوعه وتقاليده، إذا كنت تبحث عن وجهة تأخذك في مغامرة لا مثيل لها فهي الخيار الأمثل، حيث تنتظرك تجربة مليئة بالإثارة والإلهام.
اقرأ أيضًا: الأقصر.. مدينة الشمس ومتحف العالم المفتوح
كتبت: هبه حماده.