نجيب محفوظ، أيقونة الأدب العربي وأول أديب عربي ينال جائزة نوبل في الأدب عام 1988، هو الكاتب الذي خسرته الفلسفة لتكسبه الرواية، وخلّد اسمه في تاريخ الأدب العالمي، على مدار أكثر من سبعة عقود، قدّم محفوظ ما يزيد على 55 كتابًا بين رواية ومجموعة قصصية ومسرحية وترجمة، ليصبح واحدًا من أبرز رموز السرد العربي، جامعًا بين التراث الإسلامي والعربي وعمق الفلسفة، ومستلهِمًا النظريات الروائية الأوروبية.

نشأة نجيب محفوظ وبداياته الفكرية

ولد نجيب محفوظ في حي الجمالية العريق بالقاهرة في 11 ديسمبر عام 1911م، وسط أسرة مصرية متوسطة الحال، كان والده عبد العزيز إبراهيم أحمد الباشا موظفًا حكوميًا، وتسببت نشأته في قلب القاهرة التاريخية، بتأثره بالأحداث السياسية والفكرية في مصر، مثل ثورة 1919 التي عاصرها وكان عمره في ذلك الوقت 8 سنوات، مما شكّل وعيه وأثر بعمق في نظرته للعالم التي ظهرت فيما بعد برواياته.

وشغفه بالقراءة جعله يدرس الفلسفة في جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة الآن)، وفي تلك المرحلة قابل عميد الأدب العربي طه حسين، وتعمق في دراسة أصل الوجود، وزاد شغفه بأفكار الفلاسفة، متأثرًا بشكلٍ خاص بمجدد الفلسفة الإسلامية مصطفى عبد الرازق، وكان نجيب محفوظ على وشك أن يُكمل دراساته العليا في الفلسفة ليحصل على درجة الماجستير في (الجمال في الفلسفة الإسلامية)، لكن كان في داخله صراع بين حبه للفلسفة وولعه بالحكايات والأدب وحُسم الصراع لصالح الأدب، حيث رأى محفوظ أن الأدب من الممكن أن يكون وسيلة قوية لتقديم الأفكار الفلسفية العميقة، وهذا ما برع فيه بعد ذلك، حتى يترك بصمته الأعمق في الثقافة العربية والعالمية من خلال رواياته التي كان لها أبعاد فلسفية عميقة.

نجيب محفوظ يسير في حي الجمالية في شبابه حيث نشأ وتأثر بالأحداث السياسية

اقرأ أيضًا: نجيب محفوظ رائد الرواية العربية .. ما لا تعرفه عنه

أشهر روايات نجيب محفوظ

بدأ نجيب محفوظ أول خطواته في عالم الأدب بكتابة القصص، ونشر ثمانين قصة دون أجر، مما يدل على شغفه بالكتابة، وفي عام 1939 صدرت أول تجاربه الإبداعية رواية (عبث الأقدار)، وكانت بداية رحلة أدبية غنية ومتنوعة، مرت تجربة محفوظ الروائية بعدة مراحل رئيسية، عكست تطوره الفكري والفني، منها:

  • المرحلة التاريخية.
  • المرحلة الواقعية التي بلغت ذروتها بالثلاثية (بين القصرين، قصر الشوق، السكرية).
  • المرحلة الرمزية أو الفكرية التي من أهم أعمالها (أولاد حارتنا والحرافيش).

واستمر محفوظ بالكتابة حتى عام 2004، ومن أبرز رواياته الأخيرة (قشتمر) عام 1988، وكان آخر أعماله مجموعة (أحلام فترة النقاهة) عام 2004، تدور أحداث كل رواياته في مصر، وتظهر بها سمة متكررة وهي (الحارة)، التي تعادل العالم في رؤيته، مما يميز أعماله بطابع محلي وعالمي في الوقت نفسه.

    اقرأ أيضًا: الحارة المصرية تلمع في سماء نوبل الأديب نجيب محفوظ 2022

    انعكاس الوظائف الحكومية على أدب نجيب محفوظ

    كانت وظائف محفوظ الحكومية مصدر إلهام غني صقل تجربته الإنسانية والأدبية، حيث عمل بعد تخرجه في الجامعة موظفًا إداريًا بها لمدة عام، وبعد ذلك شغل الكثير من الوظائف الحكومية، منها سكرتير في وزارة الأوقاف، ورئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة.

    أتيحت هذه الوظائف له فرصة الاحتكاك بكل طبقات المجتمع المصري، وفهم تعقيداته وتناقضاته، وظهر ذلك بوضوح في شخصياته الخالدة التي كانت ظاهرة وكأنها مستوحاة من الواقع الذي يعيشه، وكانت هذه التجارب بمثابة معمل بشري، استلهم منها محفوظ تفاصيل دقيقة وعميقة عن النفس البشرية والمجتمع، ونسجها ببراعة في رواياته.

    تعرض نجيب محفوظ عام 1994 لمحاولة اغتيال بشعة نجا منها بمعجزة، لكنها تركت آثار جسدية ونفسية عميقة، أثرت على أعصاب الجانب الأيمن من رقبته، مما أثر بالسلب على قدرته على الكتابة بيده،  ورغم هذا التحدي الجسدي، ظل إبداعه موجودًا من خلال مسوداته التي كتبها من قبل، وإصراره على أنه يكمل عطاءه الأدبي، مما يؤكد عزيمته التي لا تنكسر وشغفه بالأدب الذي لا ينتهي.

    نجيب محفوظ يجلس وسط الأوراق والملفات في مكتبه الحكومي

    أهم الجوائز التي حصل عليها نجيب محفوظ

    حصد محفوظ خلال مسيرته الأدبية الحافلة عدة جوائز وأوسمة رفيعة، مما يعكس تقدير العالم لعبقريته الأدبية وتأثيره العميق، ومن أهم هذه الجوائز وأشهرها: جائزة نوبل في الأدب (1988)، وتعتبر هذه الجائزة تتويجًا لمسيرة نجيب محفوظ الأدبية، واعتراف عالمي بريادته وتأثيره، فهو أول أديب عربي يحصل على هذه الجائزة المرموقة، وساعد ذلك في فتح الأبواب أمام الأدب العربي ليحصل على اهتمام عالمي غير مسبوق.

    الأكاديمية السويدية في حيثيات منح الجائزة له أشادت بأعماله الغنية بالتفاصيل الدقيقة، والتي تتجاوز الواقعية لتستحضر عالمًا عربيًا من الوجود الإنساني، كما أنه حصل على قلادة النيل العظمى، وتعد أعلى وسام مدني في مصر، وحصل عليها محفوظ في نفس السنة التي حصل فيها على جائزة نوبل، تقديرًا لدوره الرائد في إثراء الأدب المصري والعربي، بالإضافة إلى هذه الجوائز الكبيرة، حصل محفوظ على العديد من التكريمات والأوسمة من قِبَلِ مؤسسات عربية ودولية، مما يؤكد مكانته كقيمة أدبية وفكرية لا تُقدَّر بثمن.

    اقرأ أيضًا: الأديبة فاطمة المعدول.. سر اختيارها شخصية معرض الكتاب 2025

    كيف فتح نجيب محفوظ الباب للأدب العربي في العالم؟

    النجاح الكبير الذي حققه محفوظ بجوائزه ورواياته المترجمة فتح للعالم نافذة واسعة على الأدب العربي، حيث تُرجمت رواياته لأكثر من 30 لغة، وأصبحت تُدرّس في جامعات ومراكز بحثية عالمية، وكان محفوظ بمثابة الجسر الذي وصل بين الشرق والغرب، وجعل القارئ الأجنبي يكتشف جمال وتعقيد الثقافة العربية من خلال قصص إنسانية عالمية.

    صورة لنجيب محفوظ وخلفه كتب بلغات مختلفة ترمز لوصول الأدب العربي عالميًا

    إرث نجيب محفوظ ليس مجرد روايات وقصص، بل عالم كامل مليء بالفلسفة والأسئلة الوجودية والتجارب الإنسانية الحقيقية، وستظل أعماله علامة مضيئة في تاريخ الأدب العربي والعالمي، كما ستظل أيضًا مصدر إلهام للأجيال القادمة، التي ستجد نفسها أو ستجد إجابات لأسئلتها بين سطور رواياته.

    كتب: محمد بلال.