لم يعد سد النهضة مجرد مشروع مائي ضخم في إثيوبيا، بل أصبح أزمة إنسانية وبيئية متكررة تهدد حياة الملايين في السودان، وتضع البلاد في مواجهة تحديات كبرى كل عام، فمع قدوم موسم الأمطار وتدفّق كميات ضخمة من المياه، تغمر السيول مساحات واسعة من الأراضي الزراعية والقرى والمدن، تاركة خلفها خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات، ومخاطر صحية جمة نتيجة انتشار الأمراض ونقص الخدمات الأساسية.

هذه الكارثة لا تعكس فقط تأثير التغيرات المناخية القاسية، وإنما تكشف أيضًا عن هشاشة البنية التحتية، وضعف الاستعدادات لمواجهة الكوارث الطبيعية في السودان، ومن هنا تأتي أهمية تسليط الضوء على أبعاد السد، من حيث آثاره المباشرة على السكان، والتحديات التي يفرضها على الدولة، بالإضافة إلى الجهود المحلية والدولية للتخفيف من تداعياته والحد من تكرارها في المستقبل.

سد النهضة وغرق الأراضي والمنازل

شهد السودان في الأيام الأخيرة سيولًا واسعة اجتاحت سبع ولايات، بعد أن ارتفعت مناسيب نهر النيل والسدود إلى مستويات غير مسبوقة نتيجة الأمطار الغزيرة وتدفّق كميات ضخمة من المياه من السد.

تجاوزت مياه النيل مجراها الطبيعي، فغطّت مساحات زراعية شاسعة ومبانٍ سكنية، فيما بلغ ارتفاع المياه المتسربة نصف متر في بعض المدن الواقعة على ضفاف النهر، ومع استمرار تدفق المياه، تتزايد المخاوف من خسائر بشرية ومادية كبيرة.

مشهد لقرية سودانية غمرتها مياه الفيضانات الناتجة عن سد النهضة

اقرأ أيضًا: الفيضانات في العالم.. ارتفاع في وتيرة الحدوث وتفاقم الآثار

سد النهضة والتحذيرات الرسمية والإنذار الأحمر

وزارة الري السودانية أعلنت حالة (الإنذار الأحمر) على امتداد الشريط النيلي، محذرة السكان وداعية إلى اتخاذ الاحتياطات اللازمة، وذكرت (الإدارة العامة لشؤون المياه) أن مناسيب النهر بلغت حد الفيضان في محطات رئيسية بينها الخرطوم، مدني، شندي، عطبرة، بربر، وجبل أولياء، إضافة إلى ولايات النيل الأزرق والأبيض ودنقلا شمالًا.

ضغوط السدود وتفاقم أزمة سد النهضة

البيانات الرسمية أظهرت أرقامًا قياسية في التصريفات اليومية:

  • النيل الأزرق: 730 مليون م³ يوميًا.
  • سد الروصيرص: 670 مليون م³.
  • سد سنار: 600 مليون م³.
  • سد مروي: 700–750 مليون م³، وهو الأعلى منذ سنوات.

بينما لا تتحمل السدود السودانية أكثر من 300 مليون م³ يوميًا، ما يضعها تحت ضغط خطير ويرفع احتمالات فيضانات مدمرة مرتبطة بتصريفات السد.

صورة توضح تدفق كميات كبيرة من المياه عبر أحد السدود السودانية تحت ضغط شديد

تهديد المدن والقرى بسبب السد

غرفة طوارئ جبل أولياء أكدت أن مياه النيل الأبيض اجتاحت الحواجز وغمرت مناطق منها العسال وطيبة الحسناب والشقيلاب والكلاكلات، مهددة الأحياء السكنية، كما أدت التدفقات المستمرة لليوم الخامس على التوالي إلى عزل قرى وبلدات، وإغراق مساحات واسعة من الأراضي الزراعية شمال البلاد.

اقرأ أيضًا: سد أربعات.. أسباب انهياره وأثره الكارثي على المجتمع

غياب التنسيق مع إثيوبيا وزيادة خطر السد

مصادر رسمية سودانية أشارت إلى أن السلطات فوجئت بالتدفقات الكبيرة في ظل غياب التنسيق مع الجانب الإثيوبي بشأن تبادل المعلومات، كما تسبب فتح مفيض سد الروصيرص في ارتفاع منسوب مياه النيل الأزرق، ما ألحق أضرارًا بالمناطق المنخفضة والزراعية جنوب الخرطوم.

القلق الشعبي مع تكرار مشاهد السد

في الخرطوم ومدن أخرى شمالًا وجنوبًا، تكررت مشاهد السنوات الماضية؛ إذ يسارع المواطنون بنقل مواشيهم ومحاصيلهم إلى مناطق مرتفعة، بينما تبقى فرق الطوارئ في حالة استنفار لمواجهة أي تطورات مرتبطة بتدفق المياه من السد.

سكان سودانيون قلقون ينقلون أمتعتهم وماشيتهم إلى مناطق مرتفعة خوفًا من فيضانات سد النهضة

تحذيرات الخبراء من خطورة السد

خبراء الموارد المائية وصفوا الوضع الحالي بأنه (الإنذار الأخير) قبل الكارثة، محذرين من أن استمرار تصريف السد بمعدلات تفوق الطبيعي قد يضاعف الأضرار، وأشاروا إلى أن غياب خطط وقائية فعالة يهدد بتكرار سيناريو الفيضانات المدمرة السابقة، مؤكدين أن التعاون الدولي والتخطيط المدروس وحدهما قادران على تقليل حجم المخاطر.

إن سد النهضة لم يعد مجرد مشروع إثيوبي داخلي، بل تحول إلى قضية إقليمية كبرى ومؤشر خطير على حجم التحديات المناخية والهيدرولوجية التي تواجه المنطقة، وما بين غياب التنسيق مع دول الجوار وضعف البنية التحتية في السودان، أصبح الوضع أكثر هشاشة مما يزيد من حجم الخطر على حياة المواطنين ومستقبل الزراعة والاقتصاد، هذه الأزمة تضع السودان أمام ضرورة ملحة لإعادة النظر في خطط إدارة الموارد المائية، وتعزيز التعاون الإقليمي والدولي لمواجهة المخاطر، فالتأهب المسبق، والوعي المجتمعي، والدعم الدولي يمكن أن تكون مفاتيح لتقليل الخسائر مستقبلًا، ومع ذلك يبقى السؤال الأهم: هل سيكون هناك تحرك فعلي قبل أن يتحول السد إلى كارثة أكبر يصعب احتواؤها؟

اقرأ أيضًا: الزلازل.. تعريفها، أسبابها، أنواعها، وأخطرها

كتب: محمد بلال.