المقدمة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. أنا مجد، رجلٌ كانت تحيط به عائلته في بيتٍ صغيرٍ بمساحته، عظيمٍ بدفئه، في منطقة “المعسكر- بلوك ج” بخانيونس، ستون مترًا من الحجارة المتهالكة كانت تشهد على ذكرياتي منذ التسعينات، مرورًا بحروب 2008 وما تلاها، كنت أظن أن القصف قد صار جزءًا من طبيعة الحياة، حتى جاءت هذه الحرب التي “أكلت الأخضر واليابس”، وجعلت الكوابيس واقعًا نعيشه بكل تفاصيله المريرة.
فصل المعاناة والانتظار
بدأت الحياة تضيق؛ انقطع الغاز، وشحَّ الدقيق، وارتفعت الأسعار بجنون، كنت أهدئ روع عائلتي تحت أصوات الانفجار، ثم أنطلق مع جيراني لننتشل الأشلاء من تحت الأنقاض، وكنت أبكي دمًا على مشاهد الأطفال الممزقة، أتذكر زوجتي وهي لا تخلع “ثوب صلاتها” أبدًا، وحين سألتها، قالت: “حتى إذا قُصفنا واستشهدتُ، يجدني الرجال مستورةً ولا يظهر شعري”.. لم أملك حينها إلا الصمت والدعاء.
الهدنة.. استراحة محارب مكلوم
جاءت الهدنة كطوق نجاة مؤقت، لكنها كانت محملة بالقلق، سألني ابني البكر (13 عامًا): “يا بابا، هل ستعود الحرب غدًا؟”. كنت أجيبه بـ “لا” وقلبي يعتصر خوفًا، هل سأراه عريسًا يومًا أم سأحمله أشلاءً؟ وفي صباح اليوم الأخير، أيقظنا صوت الأحزمة النارية ومناداة ابني: “يا بابا، الاحتلال نشر أوامر إخلاء لخانيونس”.
يوم الفاجعة: 13 يناير 2024
بينما كنا جلوسًا، سألني طفلي الصغير ذو الثلاث سنوات: “يا بابا، صح الله بيعوض الصابر جنة حلوة؟”، لم أكد أجيبه بـ “نعم” حتى انشقّت الأرض! لهبٌ عظيم، شظايا ملتهبة، وسقف البيت يهوي علينا في ثانية واحدة.
الاستيقاظ على العدم
أفقتُ بعد غيبوبة دامت ثلاثة أيام لأجد نفسي فاقدًا للبصر، وشظية قد اخترقت دماغي، وقدمي لا تقوى على الحركة، سألت عنهم، فجاء الرد كالصاعقة: “عظم الله أجرك، استشهدوا جميعًا”، أما أمي، فلم يجدوا منها إلا يدًا وحيدة.. لقد تبخر جسدها تحت وطأة الصاروخ.
النهاية المأساوية
في 23 يناير، حاول جاري “علي” –وهو شاب فقد عائلته سابقًا– إنقاذي، دفع كرسيّ المتحرك باتجاه “شارع 5” هربًا من الموت، لكن رصاصة غادرة أسقطته شهيدًا وتوقف الكرسي، اقتربت الدبابات، وشعرت بجنزيرها يمر فوق قدمي ثم جسدي.. صرختُ حتى تفتت كل شيء، ولم يبقَ مني أثر
توقف الألم أخيرًا، في تلك اللحظة التي سحق فيها الجنزير جسدي، شعرتُ بالخفة، رحلت إلا حيث لا تعبٍ ولا معاناة رحلت لرحمةٍ من الله ورضوان، ذهبتُ لأجيب طفلي الصغير الذي سألني عن الجنة: “نعم يا بني، ها نحن فيها معًا، حيث لا دبابات تفرقنا، ولا رصاص يسرق أحلامنا”، لقد غبتُ عن الدنيا، لكنني وجدتُ عائلتي التي لم أستطع حمايتها.
لم تنتهِ الحكاية هنا، فخلف كل قلم ثورة من المشاعر تنتظر من يقرأها، استكملوا رحلتكم واكتشفوا المزيد من القصص والأشعار عبر قسم [إبداعات قلم].
كتب: قاسم حمدان.

