فهرس المقال
تشكل البشعة أحد أكثر الطقوس إثارة للجدل في الموروث الشعبي المصري، وخصوصًا في صحراء سيناء وبعض مناطق الصعيد، ورغم تراجع حضورها في العصر الحديث أمام سطوة القانون، فإنها ما تزال تُستدعى أحيانًا بوصفها “الملاذ الأخير” والمرجع العرفي لحسم النزاعات الشائكة حين تغيب الأدلة المادية ويشتد الخلاف، كما ظهر في إحدى القضايا التي أثارت جدلًا واسعًا مؤخرًا على منصات التواصل الاجتماعي.
تكشف ممارسة البشعة عن شكل بدائي للعدالة العرفية، قائم على الرمزية والخوف والهيبة، أكثر من اعتماده على المنطق أو البراهين المادية الملموسة.
ما هي البشعة؟ (الماهية والتعريف)
البشعة هي وسيلة تقليدية قديمة يُلجأ إليها لكشف صدق المتهم أو كذبه عبر إخضاعه لاختبار نفسي وجسدي شديد القسوة، ويباشر هذه العملية شخص يُسمى (البشّاع)، وهو رجل ذو مكانة وهيبة في المجتمع القبلي، تُعطى له سلطة الفصل في القضايا المستعصية حين تتعقد الحقيقة وتغيب الشهود.
كيف تتم طقوس البشعة؟
تدور طقوس محكمة النار حول عنصري الرهبة والمفاجأة، وتتم عبر خطوات محددة:
- يقوم (البشّاع) بتسخين قطعة معدنية صغيرة ومفلطحة تُعرف بـ (المِبشَعة) في النار حتى تحمر وتشتعل بحرارتها.
- يُطلب من المتهم أن يلعق طرف القطعة بلسانه في لحظة واحدة وسريعة.
- يتم فحص اللسان؛ فيفترض أن برودة اللسان ورطوبته (ناتجة عن الثقة والصدق) كفيلتان بحمايته من الاحتراق.
- بينما يؤدي الخوف -بحسب المعتقد الشعبي- إلى جفاف الريق (اللسان)، فيترك الحديد أثره الحارق على فم الكاذب.
ورغم أن المنطق العلمي الحديث لا يدعم هذه الفكرة كليًا، فقد رآها الناس قديمًا آلية ناجحة وكاشفة للستور في القضايا التي يصعب إثباتها.

مكانة البشّاع ووظيفته الاجتماعية
لم يكن البشّاع مجرد شخص يمسك بقطعة حديد ساخنة، بل كان صاحب مكانة اجتماعية مرموقة وقبول قبلي واسع، وتتطلب وظيفته عدة شروط:
- قدرة فائقة على قراءة لغة الجسد والنفوس (الفراسة).
- حيادًا صارمًا لا يميل لطرف على حساب آخر.
- احترامًا وهيبة من جميع الأطراف المتنازعة.
- خبرة تراكمية في التعامل مع النزاعات القبلية.
وقد لعب البشّاع دورًا موازيًا للقاضي، ما منح طقس البشعة وزنًا وهيبةً لا يُستهان بهما داخل الجماعة العرفية.

لماذا يلجأ الناس إلى البِشعَة في عصر القانون؟
في المجتمع القبلي والعائلات الكبيرة، تكون السمعة هي رأس المال الأكبر، وعندما يحدث اعتداء، أو سرقة، أو شك في الشرف والنوايا، ولا تتوفر الأدلة المادية، كان الناس يلجأون إلى البشعة لعدة أسباب:
- تقدم حسمًا سريعًا وفوريًا للنزاع المعقد.
- تحفظ مكانة العائلة وتبرئ المتهم برواية قاطعة.
- تردع الكاذب والمعتدي خوفًا من الفضيحة والحرق.
- تضمن استمرار العلاقات بين الأطراف دون ثأر ممتد أو قطيعة.
لقد كانت البشعة بمثابة (محكمة النار الضرورية) لضبط الإيقاع الاجتماعي قبل تغلغل أجهزة الدولة الحديثة في المناطق النائية.
تفسير البشعة في ضوء العلم وعلم النفس
من منظور علمي بحت، تعتمد البشعة على التفسير الفسيولوجي للخوف:
- الخوف والتوتر الشديد قد يؤديان بالفعل إلى انخفاض إفراز اللعاب (جفاف الحلق).
- لكن جفاف اللسان لا يعني بالضرورة الكذب، فقد يكون ناتجًا عن الرهبة من الموقف نفسه.
- كما أن بعض (الكاذبين المحترفين) يمتلكون قدرة استثنائية على الثبات الانفعالي والتحكم في أعصابهم.
وهنا يظهر العامل النفسي كلاعب أساسي في نجاح أو فشل هذه التجربة، حيث يؤدي التوتر الشديد إلى تغيرات فسيولوجية حقيقية يفسرها البشّاع كدليل إدانة، بينما قد ينجو الكاذب المتمرس بفضل هدوء أعصابه.

الموقف القانوني ورأي الدين (الإفتاء والأزهر)
يجب التوضيح أن القانون المصري لا يعترف بنتائج البشعة، ويُصنفها كنوع من أنواع الاعتداء الجسدي، وهي غير قابلة للاعتماد في أي نزاع رسمي أو محكمة حكومية، كما ترفضها منظمات حقوق الإنسان لكونها ممارسة قسرية تمسّ كرامة الفرد وسلامته.
أما دينيًا، فقد أكدت دار الإفتاء المصرية والأزهر الشريف على تحريم البشعة (وليس تحريفها)، باعتبارها ممارسة لا أصل لها في الشرع، وتعتمد على (الكهانة) وتعذيب النفس، وتخالف مقاصد الشريعة في إقامة البينة والعدل.
رغم تراجعها وانحسارها، تبقى البشعة علامة لافتة في الذاكرة الشعبية المصرية، ودليلًا على الكيفية التي حاولت بها المجتمعات حماية الاستقرار الداخلي قبل وجود أجهزة الدولة الحديثة، فهي تعبير عن ثقافة تقوم على الشرف، والمسؤولية الجماعية، والردع، فاليوم، لا تُمارس البشعة إلا في نطاق ضيق جدًا، وتظل صفحة من تاريخ مصر الشعبي، تكشف كيف كانت الحقيقة تُستحضر بالنار، لا بالمحاضر والتقارير، في زمن كان فيه العرف هو القانون، والنار هي القاضي.
كتب: محمد بلال.
الأسئلة الشائعة حول البِشعَة
هل البشعة حرام شرعًا؟
نعم، أفتت دار الإفتاء المصرية والأزهر الشريف بتحريم البشعة؛ لأنها ليست طريقًا شرعيًا لإثبات الحقوق وتُعد نوعًا من إيذاء النفس واللجوء للكهانة.
هل يعترف القانون المصري بنتائج البشعة؟
لا، القانون المصري لا يعترف بالبشعة ويعتبرها إجراءً غير قانوني، بل قد يُعاقب ممارسها بتهمة الاعتداء الجسدي أو النصب.
أين توجد البشعة في مصر حاليًا؟
تنحصر ممارسة البشعة حاليًا في نطاق ضيق جدًا في بعض مناطق سيناء، الإسماعيلية، وبعض القرى في صعيد مصر كإجراء عرفي نادر.

