فهرس المقال
تعد مصر من أقدم وأهم الأوطان التي احتضنت الجالية اليهودية على مر العصور، فمنذ الهجرة الأولى لأسرة النبي يعقوب بن إسحاق في العهد القديم، ومرورًا بالدور الفعال للجالية في التجارة والجيوش، وحتى التقلبات السياسية والاجتماعية في العصرين البطلمي والروماني، شكل الوجود اليهودي جزءًا لا يتجزأ من النسيج التاريخي والحضاري للمجتمع المصري، فهذا المقال يأخذك في رحلة عميقة وموثقة لاستكشاف تاريخ اليهود في مصر القديمة، بدءًا من جذورهم الأولى وأسباب نزوحهم، مرورًا بالعصر الذهبي لهم في عهد البطالمة، وصولًا إلى التحديات التي واجهوها في ظل الحكم الروماني، معتمدة على مصادر تاريخية دقيقة مثل التناخ وبرديات الفنتين.
الجذور الأولى وبدايات تاريخ اليهود في مصر القديمة
بدأ الوجود اليهودي المنظم في مصر بهجرة أسرة يعقوب بن إسحاق في العهد القديم، بعد وصول النبي يوسف إلى منصب رفيع في الدولة المصرية وعودة إخوته، وبهذا تكون أسرة يعقوب هي البداية الحقيقية التي سجلت فصول تاريخ اليهود في مصر القديمة، وكانت هذه الطائفة الأولى تتمتع بالمال والنفوذ في المجتمع المصري آنذاك، وقد وصل تعداد اليهود في مصر إلى ذروته في عام 1922، حيث وصل إلى ما يقارب 80 ألف يهودي.
من الناحية اللغوية، كان اليهود الأصليون في مصر ينطقون باللغة العربية، وهم ينتمون إلى طائفتي الربانيون والقرارون، انضم إليهم لاحقًا مجموعة السفارديم بعد طردهم من إسبانيا، ومع ازدهار التجارة في مصر، استقبلت البلاد أيضًا طائفة الاشكناز الذين جاءوا في أواخر القرن التاسع عشر هربًا من المذابح التي تعرضوا لها في أوروبا، متخذين من مصر ملاذًا آمنًا لهم، وهذا التنوع الطائفي يعكس ثراء تاريخ اليهود في مصر القديمة وعمق تأثيرهم في المجتمع، شكل هؤلاء المهاجرون نخبة في مجالات الثقافة والتجارة، واتخذوا من منطقة درب البرابرة موقعاً للإقامة، يُشير البعض إلى أن مصر كانت من أول الأوطان التي نشأت فيها اليهودية، ويعود البعض بالوجود اليهودي إلى نزول الوصايا العشر في شبه جزيرة سيناء.

التواجد والدور اليهودي في العهد الفرعوني وتاريخ اليهود في مصر القديمة
العلاقة بين اليهود ومصر في العصور الفرعونية كانت تتسم بالتعقيد والتناقض، فمن ناحية يذكر التناخ (العهد القديم) زواج الملك سليمان، ثاني ملوك بني إسرائيل، من ابنة فرعون مصر، مما يدل على وجود علاقات طيبة وتحالفات سياسية وتجارية قائمة (مثل استيراد سليمان للخيول والمركبات المصرية)، تلك العلاقات المتناقضة تشكل جزءًا حيويًا من تاريخ اليهود في مصر القديمة، ومن ناحية أخرى نجد دلائل على العداء في بعض الرسوم والنقوش، أبرز هذه الدلائل هو النص الذي أمر بنقشه الملك مرنبتاح ابن رمسيس الثاني، والذي يخلد فيه انتصاره على إسرائيل بقوله: “وإسرائيل هزمتها لم يعد لساكنيها من وجود”.
في عصر الأسرة السادسة والعشرين الفرعونية، عمل بعض اليهود كمرتزقة في الجيوش المصرية، ونتيجة لذلك أقام لهم أحد ملوك هذه الأسرة مستعمرة عسكرية في جزيرة الفنتين (فيلة) في جنوب مصر، وسمح لهم بإقامة معبد خاص للعبادة هناك، فيما يخص اليهود الناجين من السبي البابلي والقادمين في عصر النبي إرميا.
فقد استقروا أولًا في مدينة تحفنحيس على مشارف الدلتا، ومنهم من تفرق في أنحاء مصر المختلفة ليستقر في منف وتانيس وأجزاء من الدلتا والصعيد، وظهور برديات جزيرة الفيلة هو دليل وثائقي بالغ الأهمية في فهم تاريخ اليهود في مصر القديمة خلال هذا العصر، تجدر الإشارة إلى أن الوجود اليهودي اختفى تقريبًا في بدايات القرن الرابع قبل الميلاد، كما أن المعبد اليهودي في الفنتين أغلق بأمر من الملك الفارسي داريوس توددًا لكهنة الإله خنوم.

العصر الذهبي الأول: يهود مصر في العهد البطلمي
يعتبر العصر البطلمي هو العصر الذهبي الأول للجالية اليهودية في مصر، سواء من حيث المكانة أو العدد، حيث تزايد نزوح اليهود من فلسطين إلى مصر بشكل خاص مع اضطراب الأحوال في فلسطين، وعمل عدد كبير منهم كمرتزقة في جيوش البطالمة، اتسم حكم البطالمة بالتسامح الديني، وفي عهدهم تمت الترجمة السبعينية للتناخ (العهد القديم)، وهي ترجمة لا تزال مقبولة في بعض الكنائس المسيحية مثل الكنيسة الأرثوذكسية. بذلك، يمثل العصر البطلمي استكمالًا وتطويرًا لمراحل تاريخ اليهود في مصر القديمة التي سبقته.
شهدت هذه الفترة تغلغلًا كبيرًا للجالية اليهودية في كافة أنحاء مصر من الإسكندرية وحتى أسوان، ومما تمتع به اليهود في العصر البطلمي هو حرية تنظيم حياتهم بما يوافق قوانينهم ومعتقداتهم؛ فكان لهم رئيس خاص بهم في الإسكندرية، بالإضافة إلى مجلس للشيوخ ومحاكم خاصة تطبق قوانينهم.

ثورات اليهود وتقليص الامتيازات في العصر الروماني
رحب اليهود بدخول الرومان إلى مصر في عهد آخر ملوك البطالمة (كليوباترا السابعة)، وقد كافأ أكتافيوس (أغسطس لاحقًا) اليهود على تأييدهم له، بالإبقاء على حقهم في مجلس الشيوخ وتأكيد جميع حقوقهم التي كانت لهم في العصر البطلمي، في المقابل حُرم سكان الإسكندرية الذين رفضوا الاحتلال الروماني من حقهم في وجود مجلس لهم، مما تسبب في توتر العلاقة بين اليهود وسكان المدينة، ووصل التوتر إلى حد الصدامات المسلحة التي استمرت طوال العهد الروماني.
لم يستطع اليهود الحفاظ على المزايا التي تمتعوا بها طويلًا، وذلك بسبب ثوراتهم المتعددة التي امتدت على طول القرن الثاني للميلاد، وكانت أكبر ثوراتهم في عهد الإمبراطور تراجان عام 115 ميلادية، وبالرغم من إخماد الثورة بسرعة في الإسكندرية، إلا أنها ظلت مشتعلة لمدة ثلاث سنوات في صعيد مصر، وخلفت دمارًا كبيرًا في الطرق والممتلكات، وظل المصريون يتذكرونها كحدث مأساوي.
نتيجة لهذه الثورات، قلص الرومان امتيازات اليهود، ففي عام 70 م ورغم عدم اشتراك يهود مصر في ثورة فلسطين، أغلقت السلطات الرومانية معبد اليهود في منف، وأُلزم اليهود بدفع ضريبة قيمتها درخمتان عن كل ذكر بالغ، وهي الضريبة التي كانت تُقدم للمعبد الرئيسي في بيت المقدس، واستمرت جباية هذه الضريبة حتى بعد إعادة بناء معبد الإله الروماني جوبيتر، ومع ذلك لم يحاول الرومان إرغام اليهود على التحول عن عاداتهم، فسمحوا لهم بالعيش حسب معتقداتهم، وأبقوا لهم حق ختان مواليدهم، وهو الأمر الذي حُرم منه المصريون فيما عدا الذين يسلكون سلك الكهنوت.
ختامًا، يظهر تاريخ اليهود في مصر عبر العصور كلوحة فسيفسائية معقدة وغنية، تبدأ بجذور عائلية في عهد يوسف وتنتهي بتقلبات الصدامات والتحالفات في العصر الروماني، فهذا التاريخ المعقد يثبت أن تاريخ اليهود في مصر القديمة كان دائمًا محورًا للأحداث الكبرى والصراعات الحضارية، ولقد كانت مصر على الدوام أرضًا للاحتضان والنزوح، ومسرحًا لعبادة الآلهة والتنظيم الذاتي، مما جعل الجالية اليهودية فيها ذات ثقل ثقافي واقتصادي عظيم، ورغم تضاؤل حجم الجالية عبر القرون، يبقى هذا التاريخ شاهدًا على العمق الحضاري الذي يُميز الأراضي المصرية.
كتبت: غادة إبراهيم.
الأسئلة الشائعة حول تاريخ اليهود في مصر
متى بدأ الوجود اليهودي في مصر؟
بدأ الوجود اليهودي المنظم في مصر بهجرة أسرة يعقوب بن إسحاق في العهد القديم، واكتسب بعدًا دينيًا منذ نزول الوصايا العشر في سيناء.
ما هي أهم الطوائف اليهودية التي عاشت في مصر؟
الطوائف الرئيسية هي الربانيون والقرارون، وانضم إليهم لاحق السفارديم (من إسبانيا) والاشكناز (من أوروبا) بحثًا عن الأمان والفرص التجارية.
ما هو العصر الذهبي لليهود في مصر؟
يعتبر العصر البطلمي هو العصر الذهبي الأول لليهود في مصر، حيث تزايدت أعدادهم، وتمتعوا بحرية التنظيم الذاتي (مجلس الشيوخ والمحاكم الخاصة).
ما أهمية برديات جزيرة الفنتين؟
برديات الفنتين تحتوي على وثائق مكتوبة بالآرامية توثق تفاصيل حياة مجتمع الجنود اليهود الذين عملوا كمرتزقة في جيوش الأسرة السادسة والعشرين الفرعونية.

