وباء كورونا (كوفيد-19) الذي ابتلي به العالم أجمع منذ ما يقرب من سبعة اشهر، حصد فيها ما يربو عن اربعمائة الف نفس حتى الان، اصبح هو البطل الاوحد لكافة المواقف او الأحداث التي تحدث في جميع انحاء العالم، وسيطر تماما على معظم المساحات الاعلامية والصفحات الورقية لكل وسائل الاعلام المرئية والمسموعة والمقروءة ،وهو بالتالي سلط اضواء قوية ومصابيح باهرة على العديد من المشاهد والسلوكيات التي بتنا نراها يوميا سواء في الاعلام او في مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، وهي مشاهد حية متعلقة بحياة الناس في فترة الوباء وكيفية مواجهة كافة شعوب الأرض لهذا الوباء .
وهنا في مصر لم يختلف الامر كثيرا بطبيعة الحال، وتركز الحديث في في معظم الوقت حول الطريقة التي يتعامل بها الشعب المصري مع الوباء خاصة بعد انتشاره بشكل مكثف في طول البلاد وعرضها خلال الفترة الماضية ، بعد لجوء الحكومة للاعتماد على وعي الشعب لمواجهة الوباء وهو ما أتي كالعادة بثماره مع الاسف واصبحت اعداد الاصابات بالالاف يوميا ،وبالتالي فإن شكل الحديث قد تغير الان ولم يعد يشغل الناس طرق الوقاية من المرض بعد فوات اوان الوقاية على كافة الاصعدة، واصبح الشغل الشاغل للجميع هو كيفية العلاج والنجاة من الفيروس اللعين .
والواقع انه منذ ان بدء هذا المرض في الانتشار في مصر، ولاحظنا ظهور العديد من الانماط السلوكية الغريبة على المجتمع المصري، كان اولها هو رفض قرية بأكملها في محافظة الدقهلية دفن طبيبة من ذات البلد، في مدافن القرية بسبب اصابتها بالوباء اثناء ممارسة عملها المقدس في علاج اهالي القرية المصابين به ووفاتها تأثرا بالفيروس وذلك بحجة الخوف من العدوى !! وهو ما دفع الجميع لاستنكار هذه الفعلة الحمقاء واستهجانها، بينما جاء رد المحافظ عمليا بالاصرار على دفن الطبيبة الشهيدة بالقرية مع اطلاق اسمها على المدرسة الابتدائية، كما اطلقت جامعة القاهرة اسمها على جناح كامل بمستشفى القصر العيني الفرنسي بالقاهرة، عرفانا من الجميع لأدائها دورها المقدس في مواجهة الوباء واستشهادها أثناء أدائها لواجبها في علاج الناس.
وبعد ان ظهر وعي الشعب المصري بعافية حبتين في هذه الواقعة الفريدة، والتي اندفعت كافة الاقلام تتحدث باسهاب عنها وسال الحبر كثيفا لشرح اسباب هذه الظاهرة الغريبة على الناس في مصر وتوالت ردود الافعال الرافضة لهذا السلوك من كافة اطياف المجتمع ،حاول البعض بعد ذلك التقليل من الحدث نفسه وان يعزوه فقط للجهل الذي يسود تلك المناطق النائية في كفور ونجوع مصر ، وان هذه الحوادث الفردية لن تتكرر ابدا وان وعي الشعب المصري بخير وكده ، وان لا اليابان ولا الروس ولا الامريكان يقدروا على اللي بيعملوه المصريين الجدعان!!
فوجئنا هذه الايام بظهور نمط سلوكي ألعن مائة مرة من النمط الاول، وهو قيام بعض المتعافيين من المرض اللعين- والذين تم علاج معظمهم على نفقة الدولة- باستغلال الظروف واستثمار الازمة ،عن طريق بيع كميات من دماؤهم للمرضى المصابين حديثا بالفيروس لاستخلاص البلازما المتشبعة بالاجسام المضادة للفيروس، وهي التي تستخدم في علاج الحالات الشديدة والحرجة المصابة بالمرض مقابل مبالغ مالية بالاتفاق مع المريض واهله ،والذين يكونون بالطبع في عرض المتعافي ودماؤه من اجل النجاة من الموت ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.
ولأن الحدث جلل هذه المرة ووعي الشعب دخلنا في حارة سد فقد تدخل هذه المرة الازهر الشريف ،الذي لم يستطع الصمت امام هذا المسلك المنافي للدين وسارع باصدار فتوى اكد فيها أن بيع المتعافى بلازما دمه مستغلا الجائحة لا يجوز شرعًا؛ إذ أن جسد الإنسان بما حواه من لحم ودم ملك للخالق سبحانه لا ملكًا للعبد، ولا يحق لأحد أن يبيع ما لا يملك. ثم إن ثمن الدم حرام لا يجوز؛ لأن الشىء إذا حُرّم أكله حُرّم بيعه وثمنه، قال سبحانه “حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ” وقال ﷺ: «..وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ».
كما أكد الازهر الشريف أنه لا يجوز قياس بيع بلازما المتعافين على بنوك الدم الموجودة؛ لأن وجود بنوك الدم ضروري للتداوي والعلاج، أما بيع المتعافي بلازما دمه فإتجار محرم متفق على تحريمه. وأشد منه حرمة أن يتاجِر المتعافي بآلام الناس فيبالغ في ثمن دمه، ويعقد عليه مزادا سريا أو علنيا، وأن يستغل حاجة الناس ومرضهم وفاقتهم؛ فهذه والله لأخس أنواع التجارة وأذمها؛ لمنافتها الدين والمروءة وشكر النعمة؛ وهي صفات لا تليق ان يتعامل بها مريض الأمس مع مريضِ اليوم.
فهل صحيح ان فيروس كورونا قد أزال الغمام عن طبائع بشرية دفينة في سلوك المصريين كانت تختفي طوال الوقت خلف كلمات المجاملة وابتسامات النفاق، وأن ما يتحكم الان في فكر الشعب هو الطمع والاستغلال ونظرية (أبجني تجدني) كما يقولون وان هذا الابتلاء الرباني قد أخرج بالفعل.. اسوء ما فينا ؟!
كتب/ تامر محمود متولي