الدولة المملوكية…6

04 11 2017 58308

في عام 1289 قضى السلطان قلاوون على كونتية طرابلس الصليبية وحرر طرابلس من قبضة الصليبيين ثم قرر في العام التالي تحرير ثغر عكا الذي كان من بقايا مملكة بيت المقدس الصليبية، إلا أنه ولفرحة سكانها الصليبيين توفي في شهر نوفمبر قبل أن يبدأ بالمسير، وكان قلاوون قد جعل ولاية العهد لابنه علاءُ الدين عليّ، لكنَّ هذا الأخير تُوفي في حياة أبيه سنة 687هـ المُوافقة لِ1288م، ولم يبقَ سوى ابنه الآخر صلاحُ الدين خليل – الذي كان مكروهًا من الأُمراء لِما عُرف عنهُ من قسوة وعدم تمسُّك بِقواعد الدين – فكان تولِّيه العرش صعب بِوُجود تلك المُعارضة، كما قيل أنَّ والده لم يكن راضيًا عن تصرُّفاته ولم يثق به، وأعتقد أنَّهُ غير كُفء لِتولِّي السلطنة، ورفض أن يُوقِّع التقليد له بِولاية العهد، وتُوفي ولم يعهد لِولده بِالمُلك، إنما لم يكن ذلك مانعًا من أن يؤول إليه، خاصَّةً وأنَّ الموقف السياسي كان يتطلَّب قيام سُلطانٍ جديد على وجه السُرعة لِيقود الحملة التي كان قلاوون قد أعدَّها لِلقضاء على الصليبيين في عكَّا.

-استعداد السلطان الجديد للمعركة:

وهكذا أقسم الأُمراء الأيمان لِلسُلطان خليل ولقَّبوه بِالأشرف، فخلع عليهم ثُمَّ تأهَّب لِلخُروج إلى الشَّام ليدخل عكا ويفتحها وينهي الإحتلال الصليبي لها، فأرسل إلى وليام اوف بوجيه رئيس طائفة فرسان المعبد بعكا يعلمه بأنه قد قرر الهجوم عليها وطلب منه عدم إرسال رسل أو هدايا إليه لأن ذلك لن يثنيه عن مهاجمة عكا.. إلا أن عكا أرسلت إلى القاهرة وفداً محملاً بالهدايا يرأسه فيليب ماينبيف أحد أعيان عكَّا الإفرنج وعُضويَّة فارسين أحدهما من الداويَّة والآخر من الإسبتاريَّة وكاتباً، لإسترجاء الأشرف بالعدول عن خطته وضرورة الحفاظ على المعاهدة فرفض الأشرف صلاح الدين خليل مقابلتهم وقام بحبسهم.

قام الأشرف بتعبئة جيوشه من مصر والشام والتي كانت تضم أعداداً كبيرة من المتطوعين وآلات الحصار التي كانت تشمل اثنين وتسعين منجنيقاً، بعض العرارات الضخمة كانت تحمل أسماءً مثل المنصوري والغاضبة وكانت هناك مجانيق أصغر حجماً ولكن ذات قوة تدميرية هائلة اسمها الثيران السوداء.
إحتشدت الجيوش عند قلعة الحصن في جبال الساحل السوري ثم انضم إليها جيش مصر الذي خرج به الأشرف خليل من القاهرة، إنضمت أربعة جيوش يقودها نواب السلطان، جيش دمشق يقوده حسام الدين لاجين وجيش من حماة يقوده المظفر تقى الدين، وجيش من طرابلس يقوده سيف الدين بلبان، أما الجيش الرابع فقد كان من الكرك وكان على رأسه الأمير المؤرخ بيبرس الدوادار ، وقد كان في جيش حماة أميراً مؤرخاً آخر هو أبو الفداء.

كان الصليبيون في عكا يدركون منذ فترة خطورة موقفهم، وكانوا قد أرسلوا إلى ملوك وأمراء أوروبا يطلبون منهم العون والمساعدة إلا أنهم لم يصلهم من أوروبا دعماً يذكر، قام ملك إنجلترا إدوارد الأول بإرسال بعض الفرسان، الدعم الوحيد الذي كان ذا أهمية جاء من هنري الثاني ملك قبرص الذي قام بتحصين أسوار عكا وأرسل قوة عسكرية على رأسها أخوه “أمالريك”، كانت عكا محمية براً عن طريق سورين مزدوجين سميكين واثنا عشر برجاً شيدها الملوك الأوروبيون وبعض أثرياء حجاج بيت المقدس . كانت الأسوار مقسمة على الطوائف والفرق الصليبية بحيث تكون كل طائفة (فرسان المعبد، الاسباتريه، فرسان التيوتون الألمان وغيرهم) مسئولة عن حماية قسمها.

-حصار المدينة:
غادر الأشرف خليل القاهرة في السادس من مارس 1291، وبحلول الخامس من إبريل كان جيشه يقف بمواجهة عكا، نصب الأشرف دهليزه الأحمر فوق تلة مواجهة لبرج المندوب البابوي على مسافة غير بعيدة من شاطئ البحر، وانتشر جيش مصر من نهاية سور مونتموسارت حتى خليج عكا، واتخذ جيش حماة مواقعه عند البحر وعلى ساحل عكا، وفي اليوم التالي انطلقت عرارات جيش المسلمين ومناجيقه تلقي بالأحجار الضخمة والنيران على أسوار عكا وراح رماة السهام من المسلمين بإمطار المدافعين من الصليبيين المتمركزين فوق أبهاء الأبراج وأفاريزها بسهامهم .

بعد ثمان أيام من الدك والمناوشات والإشتباكات تقدم الفرسان والمهندسون المسلمون وقد تغطوا بالدروع في موجات متلاحقة نحو سور عكا حتى سيطروا على حافته دون أن يتمكن المدافعون الصليبيون من إيقاف موجات زحفهم لكثرة أعدادهم وتلاحق موجاتهم بإمتداد الأسوار، إستخدم المسلمون سلاحاً يدوياً صغيراً يطلق نيراناً كثيفة وسريعة أطلق عليه الصليبيون إسم “كارابوها” وقد أحدث هذا السلاح أضراراً بالغة بالمقاتلين الصليبيين وصعب عليهم التقدم نحو المهاجمين المسلمين ، وتمكن المسلمون من إحداث أضرار وبعض النقوب في الأجزاء الضعيفة من الأسوار، أخذ الأمير سنجر الشجاعي ومقاتلية على عاتقهم نقب سور برج جديد يسمى برج الملك وكان أمام البرج الملعون، فقام الصليبيون بإشعال النار به وتركوه ينهار .

وعلى الرغم من إستمرار وصول الإمدادت والتعزيزات العسكرية من قبرص إلى عكا عن طريق البحر إلا أن الصليبيين المحاصرين فيها كانوا يدركون أنهم غير قادرين على التصدي لجيش المسلمين، في الخامس عشر من إبريل تحت ضوء القمر قامت قوة صليبية من فرسان المعبد بقيادة “جين جريلى وأوتو أوف جراندسون”بغارة مفاجئة على معسكر جيش حماة بهدف إحراق إحدى عرارات المسلمين إلا أنه ولسوء حظهم تعثرت أرجل خيولهم في حبال خيام المقاتلين المسلمين مما أدى لإنكشاف أمرهم ومقتل وأسر العديد منهم وتمكن عدد منهم من الفرار ببعض طبول ودروع المسلمين، وبعد بضعة أيام شن فرسان الاسباتريه غارة أخرى على معسكر للمسلمين، تلك المرة في الظلام الدامس، ولكن غارتهم إنتهت هي الأخرى بالفشل بعد أن إنكشف أمرهم وأشعل المسلمون المشاعل وتصدوا لهم فلاذوا بالفرار بجرحاهم .

ليأتي الرابع من شهر مايو ويسترد الصليبيون المحاصرون بعض الثقة والأمل حين وصل الملك هنري الثاني من قبرص، وفي صحبته أربعون سفينة محملة بالمقاتلين والعتاد، فتولى هنري قيادة الدفاع ولكن سرعان ما أدرك قلة حيلته في مواجهة الأشرف صلاح الدين خليل فأوفد إليه فارسين من فرسان المعبد هما وليام اوف كافران ووليام اوف فيلييه لطلب السلام وإعادة الهدنة، وسألهما الأشرف عما إذا كانا قد أحضرا معهما مفاتيح المدينة، فلما أجابا بالنفى قال لهما أن كل ما يهمه هو إمتلاك المدينة وأنه لا يهمه مصير سكانها ولكن تقديراً منه لشجاعة الملك هنري ولصغر سنه وقدومه لتقديم المساعدة وهو مريض، فإنه على إستعداد أن يبقى على حياة السكان في حال تسليم المدينة له دون قتال فأجابا بأنهما لم يأتيا إليه للإستسلام ولكن فقط لطلب رحمته على السكان، وبينما الفارسان يستعطفان الأشرف إذ بعرارة صليبية تلقى من داخل عكا بحجر يسقط بالقرب من دهليز الأشرف فظن أنها مؤامرة صليبية لقتله وأراد قتل الفارسين، إلا أن الأمير سنجر الشجاعي شفع فيهما فسمح الأشرف لهما بالعودة إلى عكا.

-فتح عكا:

منذ الثامن من شهر مايو بدأت أبراج عكا تصاب بأضرار بالغة نتيجة لدكها المستمر بالمناجيق وتنقيبها عن طريق المهندسين المسلمين، فإنهار برج الملك هيو وتبعه البرج الإنجليزي وبرج الكونتيسة دو بلوا، وفي السادس عشر من مايو قام المسلمون بهجوم مركز على باب القديس أنطوان تصدى له فرسان المعبد والاسبتاريه .

وفي فجر الجمعة 17 جمادى الأولى سنة 690 هـ الموافق 18 مايو 1291 سمع صليبيو عكا دقات طبول المسلمين، وبدء المسلمين بالزحف الشامل على عكا بإمتداد الأسوار، تحت هدير دقات الطبول التي حُملت على ثلاثمائة جمل لإنزال الرعب في صدور الصليبيين داخل عكا، إندفع جنود جيش الأشرف وجيش حماة وهم يكبرون لمهاجمة تحصينات المدينة تحت قيادة الأمراء المماليك الذين إرتدوا عمائم بيضاء ووصل المقاتلون إلى البرج الملعون وأجبرو حاميته على التراجع لجهة باب القديس أنطوان وإستمات فرسان المعبد وفرسان الاسبتاريه في الدفاع عن البرج والباب ولكن المقاتلون المسلمون، الذين كانت نار الإغريق من ضمن أسلحتهم تمكنو من الإستيلاء عليهما وراحت قوات جيش المسلمين تتدفق على شوارع المدينة حيث دار قتال عنيف بينهم وبين الصليبيين، وقتل مقدم فرسان المعبد “وليام اوف بوجيه وتبعه “ماثيو اوف كليرمونت” وجرح مقدم الاسبتارية جون فيلييه جرحاً بالغاً فحمل إلى سفينته وبقى بها.

رفعت الصناجق الإسلامية على أسوار عكا وأيقن الملك هنري أنه لا طاقة للصليبيين بجيش الأشرف وأن عكا ستسقط في يد المسلمين لا محال فأبحر عائداً إلى قبرص ومعه جون فيلييه مقدم الاسبتاريه وقد تعرض الملك هنري فيما بعد للإتهام بالتخاذل والجبن .

سادت عكا حالة من الفوضى العارمة والرعب الهائل، وإندفع سكانها المذعورن إلى الشواطئ بحثاٌ عن مراكب تنقلهم بعيداً عنها، ولا يدري أحد بالتحديد كم منهم قتل على الأرض أو كم منهم ابتلعه البحر، وتمكن بعض الأثرياء من النبلاء من الفرار من عكا في مراكب الكاتلاني روجر دو فلور، مقدم المرتزقة وفارس المعبد مقابل أموال دفعوها له وقد تمكن روجر دو فلور من إستغلال الموقف فإبتز الأثرياء والنبيلات وكون ثروة طائلة .

وقبل أن يحل الليل كانت مدينة عكا قد صارت في أيدي المسلمين، فيما عدا حصن فرسان المعبد الذي كان مشيداً على ساحل البحر في الجهة الشمالية الغربية من المدينة، وعادت عكا إلى المسلمين بعد حصار دام أربعة وأربعين يوما وبعد أن إحتلها الصليبيون مائة عام .

بعد أسبوع من فتح عكا تفاوض السلطان خليل مع بيتر دو سيفري رئيس حصن فرسان المعبد، وتم الإتفاق على تسليم الحصن مقابل السماح بإبحار كل من في الحصن إلى قبرص، وبعد وصول رجال السلطان إلى الحصن للإشراف على تدابير الإخلاء تعرضو لبعض النسوة في الحصن مما أدى إلى غضب فرسان المعبد فإنقضوا عليهم وقتلوهم وأزالوا صنجق المسلمين الذي كان قد رفع على الحصن من قبل وإستعدوا لمواصلة القتال .

في الليل، تحت جنح الظلام، غادر ثيوبالد جودين مقدم فرسان المعبد الجديد، الحصن إلى صيدا في صحبة عدد من المقاتلين ومعه أموال الطائفة، وفي اليوم التالي ذهب بيتر دو سيفري إلى السلطان خليل ومعه بعض الفرسان للتفاوض من جديد فقبض الأشرف عليهم وأعدمهم إنتقاماً لرجاله الذين قتلهم الفرسان في الحصن، فلما رأى بقية الفرسان المحاصرون في الحصن ما حدث لبيتر دو سيفرى ورفاقه واصلوا القتال.

وفي الثامن والعشرين من مايو بعد أن حفر المهندسون نفقاً تحت الحصن دفع الأشرف بألفي مقاتل للإستيلاء عليه، وبينما هم يشقون طريقهم داخله إنهار البناء وهلك كل من كان بداخل الحصن من مدافعين ومهاجمين .

وصلت أنباء إنتصار جيش المسلمون وتحريره عكا إلى دمشق والقاهرة ففرح الناس وزينت المدن، ودخل السلطان الأشرف صلاح الدين خليل دمشق ومعه الأسرى الصليبيين مقيدين بالسلاسل وقوبل جيش المسلمين بالإحتفالات ورفع رايات النصر وزينت دمشق وعمت البهجة بين الناس، وبعد أن دخل القاهرة وتزينت وفرشت فيه الشقق الحرير تحت حافر فرسه، وبعد أن زار قبر أبيه السلطان المنصور قلاوون صعد إلى قلعة الجبل وخلع على الأمراء، أمر الأشرف بإطلاق سراح فيليب ماينبيف وزملائه الصليبيين الذين كان قد قبض عليهم قبل مسيره إلى عكا، وقام الأشرف بنقل بوابة كنيسة القديس أندرياس من عكا إلى القاهرة لإستخدامها في إستكمال مسجده، وبعد أيام قليلة توفى السلطان الأشرف صلاح الدين خليل مقتولاً يوم السبت 12 مُحرَّم 693هـ المُوافق 31 ديسمبر1293م، بعد أن تآمر عليه بعض أُمراء المماليك وترك اثنتين من البنات ولم يعقب ذُكُورًا، ليبدأ بذلك عصراً صغيراً ملئ بالتوترات السياسية.

كتب:مصطفي خالد