لم يظهر في بلاد المسلمين حكاماً من طائفة العظماء مثل اثنان أحدهما من المشرق والأخر من المغرب، ومن الصدف الغريبة أنهما يحملان نفس الإسم ألا وهو يوسف.
ومن الصدف أيضاً أنهما لم يكونا يوماً من العرب فالأول كردي والأخر أمازيغي.
وكان لكلاهما ملحمة مع الفرنج الأوروبيين التي لا يستطيع التاريخ أن يغفل عنها، والتي حاول خلالها الفرنج أن يبسطوا نفوذهم على الأراضي الإسلامية سواءً في الأراضي المقدسة بالشام أو في الأندلس.
هذان الإثنان هما أبا المظفر يوسف بن أيوب، الملقب بصلاح الدين، سلطان مصر والشام الذي أسس الدولة الأيوبية، وصاحب معركة حطين التي على إثرها إستعاد بيت المقدس بعد 90 عاماً تقريباً من سقوطها في يد الفرنج.
أما الثاني هو أبا يعقوب يوسف بن تاشفين، أمير المسلمين، ومؤسس دولة المرابطين بالمغرب، وصاحب معركة الزلاقة، التي أعطت الأندلس بضعة قرون من الزمن قبل سقوطها نهائياً على يد مملكة قشتالة.
صلاح الدين سيرته وأخبار ملحمته مع الفرنج قد تناولها “آدم” من قبل، أما الآن فسيأخذكم “آدم” في رحلة جديدة مع يوسف بن تاشفين وملحمته في معركة الزلاقة.
حال الأندلس قبل معركة الزلاقة :
شهد القرن الرابع الهجري قمة التقدم الحضاري والسياسي في بلاد الأندلس، وأضحت قرطبة “عروس الغرب” وحكامها خلفاء بني أمية يتمتعون بمكانة عالية، سياسياً وعسكرياً وحضارياً.
ولم يدر بخلد أحد أن هذا الصرح الذي تسامى عالياً على عهد المنصور بن أبي عامر كان يحمل في طياته عوامل هدمه وفنائه، فما إن مات المنصور، ومن بعده ابنه عبد الملك حتى ثار القرطبيون على عبد الرحمن بن المنصور.
وبدأت سلسلة من الأحداث الدامية أدت في النهاية إلى تمزق هذه الدولة تمزقاً يؤلم الصدور، وقامت في جوانبها خلافات وممالك وسلطنات لا حول لها ولا قوة.
بل إن قواها قد وجهت ضد بعضها بعضا حتى أنهكت القوى واضمحلت الأندلس بشكل كبير، وكانت القشة التي قضمت ظهر البعير عندما سقطت طليطلة في يد ألفونسو السادس ملك قشتالة الإفرنجي، فسارع أغلب أمراء الطوائف، وعلى رأسهم المعتمد بن عباد أمير سرقسطة، في الإرسال للأمير يوسف بن تاشفين، وحمل السفارات إليه ليطلبوا منه النجدة من براثن ألفونسو السادس، فما كان من الأمير يوسف إلا أن يلبي النداء، ويرفع راية الجهاد.
الإستعداد للمعركة:
أمر يوسف بن تاشفين لخمسمائة فارس بالتجهز للعبور إلى الأندلس كمقدمة لبقية الجيش، وبدأ الفرسان بالتوافد على الجزيرة الخضراء، ونزلوا بدار الصناعة، وضُرب معسكر للفرسان، وأخذ الفرسان بالتوافد حتى اكتمل عددهم وقد أحاطوا بالجزيرة من كل جهة، وأحدقوا عليها يحرسونها بقيادة داود بن عائشة، ثم اتصل ابن عائشة بالمعتمد يخبره بوصولهم للجزيرة ويطلب منه إخلائها كما اتفق مع يوسف بن تاشفين، وبعد تردد من المعتمد بن عباد قرر المواصلة في التفاهم الذي عقده من ابن تاشفين خلال سفاراته إلى مراكش، ثم أرسل أمير المسلمين إلى ابن عباد رسالة فيها: «كفيناكم مؤنة القطائع، وإرسال الأقوات لأجنادنا كما وعدت».
فما كان من المعتمد إلا أن أرسل لابنه الراضي بن المعتمد وكان وقتها أميرًا على الجزيرة الخضراء، بإخلاء الجزيرة للمرابطين فورًا، فدخلها المرابطون وعادت الأمور إلى ما كانت عليه من الصفاء، بعد أن توجس المرابطون ريبة من تأخر ابن عباد في إخلاء الجزيرة، ثم انطلقت كتائب المرابطين تجوز البحر متوجهة إلى الأندلس، تكبر وتهلل، تضم أفواجًا من الذين انضموا للمرابطين بعد دعوة ابن تاشفين للجهاد.
ولما ركب ابن تاشفين البحر متوجهًا للأندلس دعا الله: «اللهم إن كنت تعلم أن جوازي هذا خيرًا وصلاحًا للمسلمين فسهل علي جواز هذا البحر، وإن كان غير ذلك فصعبه علي حتى لا أجوزه».
وكان ابن تاشفين قد أمر بعبور الإبل من المغرب إلى الأندلس لأغراض عسكرية، فعبر منها ما أغص الصحراء، وارتفع رغائها إلى عنان السماء، ولم يكن أهل الجزيرة قد رأوا جمالًا قط، ولا كانت خيلهم قد رأت صورها ولا سمعت أصواتها، وكانت تذعر منها وتقلق، وكان هذا قصد يوسف بن تاشفين في عبورها، فلما كانت المعركة كانت خيل الإفرنج تحجم عنها.
وبهذا تكون قوة المرابطين قد أكملت عبورها إلى الأندلس، وحلت في الجزيرة الخضراء، وأصبحت قريبة من أرض المعركة، ولم يعد يفصلها بين القتال فاصل، فالقوات القشتالية كانت تغير على أي مكان في الأندلس، وتعيث وتخرب ثم تعود إلى ألفونسو، ولهذا أمر ابن تاشفين بتقوية حصون الجزيرة الخضراء، وشحنها بالسلاح والذخيرة والطعام، وتشديد الحراسة عليها لتكون قاعدة حصينة، ونقطة اتصال أمينة بين الدولتين الأندلس والمغرب.
وكان في مقدمة من استقبل ابن تاشفين القاضي أبو الوليد الباجي وعدد كبير من العلماء، واستبشر أهل الأندلس بوصول المرابطين وأميرهم، وبهذا مهدت السُبل أمام المرابطين في الأندلس، وما إن علم المعتمد بوصول ابن تاشفين الجزيرة الخضراء حتى أرسل ابنه للقائه، بينما انشغل هو بتأمين مؤن الجيش، ثم أمر المعتمد جنده بالتجهز والاستعداد للّحاق بجيش المجاهدين، وسار لاستقبال ابن تاشفين.
والتقيا في معسكر ابن تاشفين، ولم يبقَ أحدٌ من ملوك الطوائف في الأندلس إلا بادر وأعان وخرج وأخرج، ولما اكتملت الاستعدادات وتهيأ الجند للتحرك يقودهم ابن تاشفين، أشار عليه ابن عباد بالسير لاشبيلية ليستريح من وعثاء السفر فأبى وقال: «إنما جئت ناويًا جهاد العدو، فحيثما كان العدو وجهت نحوه».
جاءت أنباء عبور المرابطين إلى ألفونسو السادس وهو يشدد الحصار على مدينة سرقسطة، مما اضطره لرفع الحصار عنها، والتفرغ لإعداد الخطط وتجميع القوى، فأرسل إلى ابن ردمير الذي كان يحاصر مدينة طرطوشة، وإلى ألبارهانس القائد القشتالي الذي كان يحاصر بلنسية، فأتوه بجيشهما، وبعث إلى قشتالة وجليقية وليون.
فأتى من تلك البلاد حشود كبيرة، واستمر ألفونسو في الاستنفار والحشد من أرجاء أوروبا، وأخذت النجدات تتوافد إلى قشتالة، حتى استكمل ألفونسو استعداداته العسكرية كاملة، فسار في عدة وعتاد، وارتقى ربوة مع جماعة من زعماء قومه ليبصر أعداد جيوشه، فأعجب بما رأى من كثرتهم ولمعان دروعهم، فقال لابن عمه غارسيا: «هذا اليوم لنا فيه الغلبة على المسلمين»، ثم واصل ألفونسو وجيشه السير باتجاه بطليوس حيث سهل الزلاقة وجيش المسلمين، وكان ألفونسو يظن أنه قادر على حسم المعركة لصالحه، لما رآه من كثرة جنوده وعتاده، فكان يقول: «بهؤلاء أقاتل الإنس والجن وملائكة السماء».
يوم الحسم:
تم الاتفاق بين يوسف بن تاشفين وألفونسو السادس على أن تكون المعركة في يوم الإثنين، ولكن ألفونسو كان يرى وفقًا لمبدأ ذميم، أنه يحق له أن يلجأ في الحرب إلى كل خدعة، وأن ينكث بالعهد المقطوع، فيقاتل قبل اليوم المفروض ليفاجيء العدو، وليتمكن من هزيمته.
ومن ثم فقد اعتزم أن يلجأ إلى مثل هذه الخدعة، وأن يختار للقتال يوم الجمعة وهو يوم المسلمين، وكان المسلمون على الرغم من تحديد القتال بيوم الإثنين، إلا أنهم لم يدخروا وسعًا في التحوط ضد أي مفاجأة، وارتابوا في نيات ملك قشتالة، وقد عرف المعتمد بن عباد أمير اشبيلية من قبل خداعه في الحرب، فأكثروا العيون حول معسكر ألفونسو، وبثوا طلائع تترصد حركة جيشه، واستمرت الحالة على ما هي عليه حتى سحر يوم الجمعة 12 رجب 479 هـ.
فارتدت الطلائع الساهرة إلى المعتمد بن عباد، يخبرونه أنهم سمعوا ضوضاء الجيوش واضطراب الأسلحة متحققين من تحرك ألفونسو، وقالوا: «استرقنا السمع فسمعنا ألفونسو يقول لأصحابه: ابن عباد مُسعر هذه الحروب، وهؤلاء الصحراويون وإن كانوا أهل حفاظ وذوي بصائر في الحرب، فهم غير عارفين بهذه البلاد، وإنما قادهم ابن عباد، فاقصدوه واهجموا عليه واصبروا، فإن انكشف لكم هان عليكم أمر الصحراويين من بعده، ولا أرى ابن عباد يصبر لكم إن صدقتموه الحملة».
عندها بعث ابن عباد رسالة يحملها أبو بكر بن القصيرة لأمير الجند ابن تاشفين يخبره بتحرك ألفونسو، وما قام به من غدر في الاتفاق، ويستحثه نصرته، فقال له ابن تاشفين: «إني سأقرب منه إن شاء الله».
وفي هذا أرسل ابن تاشفين إلى المعز بن باديس يخبره بما جرى: «فأتتنا الأنباء في سحر يوم الجمعة، أن العدو قد قصد بجنوده المسلمين، يرى أنه قد اغتنم فرصة في ذلك الحين، فنبذت إليه أبطال المسلمين، وفرسان المجاهدين، فتغشته قبل أن يتغشاه»، وكانت تكمن قوة خطة جيش المسلمين في القوة الاحتياطية التي خطط لها أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، إذ تحتوي هذه القوة على أشجع مقاتلي المرابطين، وخطط لها أن تنقض على جيش ألفونسو في الوقت المناسب، بعد أن يكون الإعياء قد بلغ منهم مبلغه، على أن تضمن هذه القوة الاحتياطية التغلب على العدو بالمفاجأة، بجيش احتياطي يتبع نظام الكمين التي ساعدت عليه طبيعة أرض الأندلس، ووعورتها التي تتناسب مع هذا النوع من القتال.
ودارت معركة حامية الوطيس، حمل المسلمون فيها على قوات ألفونسو بكل قوة، فلما اشتد القتال على جيش ألفونسو ودام القتال لساعات، أصبح ألفونسو وجيشه بين مطرقة ابن عباد وسندان ابن تاشفين، وكانت الضربة القاضية التي أنهت المعركة، حين أمر ابن تاشفين حرسه الخاص المكون من أربعة آلاف فارس بالنزول إلى قلب المعركة، فاستطاع أحدهم الوصول لألفونسو، وطعنه في فخذه، طعنة نافذة بقي يعرج منها طوال حياته، وكانت حينها الشمس قد قاربت على المغيب، وأدرك ألفونسو وقادته وفرسانه أنهم يواجهون الموت، فبادر مع قليل من أصحابه واعتصموا بتل قريب من موقع المعركة، ومن ثم انسل تحت جنح الظلام منهزمًا إلى قورية، وبهذا النصر انتهت معركة الزلاقة التي لم تستمر إلا يومًا واحدًا.