تناولنا في الجزء الأول من حوارنا عن كيفية استعادة مفهوم الأسرة في حياتنا؟، وتحدثنا عن قيمة الأسرة ومكانتها في بناء المجتمع وكيف أسس الإسلام لبناء أسره ناجحة رشيدة؟ وسوف نستكمل في الجزء الثاني من حوارنا مع الدكتور عادل هندي، أستاذ مساعد بكلية الدعوة الإسلامية بجامعة الأزهر، الحديث عن:
– عادات وتقاليد تهدّد كيان الأسرة في المجتمع.
– صفات الأسرة المثالية.
اقرأ أيضًا: كيف نستعيد مفهوم الأسرة في حياتنا؟ الجزء الأول
عادات وتقاليد تهدد كيان الأسرة في المجتمع
لقد ابتليت الأسرة أيها الأحباب ببلاءات متعددة، ساهمت في إبطال دورها المنوط بها؛ من حيث تنشئة الأبناء وحُسْن تربيتهم، وكان من بين هذه الابتلاءات عادات وتقاليد اعتادت عليها أُسَر كثيرة بحجّة أنّ هؤلاء الناس يعيشون هكذا، ونسيَ أرباب هذه الأُسَرِ أو تناسَوْا أنّ الله سائلهم عمّا ملّكهم من مسئوليات ضخمة تجاه أسرهم وأهليهم، ومن بين هذه العادات والتقاليد التي تهدّد كيان الأسرة، ما يأتي:
1- الشغل المتواصل للزوجين وغياب الأب عن التربية والتوجيه، فلقد كثر البحث عن لقمة العيش، ولا عيب في ذلك إذا لم تله عن أولويات أخرى، حتى اعتقد البعض من الآباء أنهم يسمّنون بهائم في البيوت، ونسوْا أن هناك تسمينًا تربويا مطلوبًا، فلا يكون شغل الآباء معوقًا للمسئولية التربية والأخلاقية.
2- روح اللامبالاة وعدم الاهتمام بالتربية الخلقية للأبناء، مع الحرص على التقليد للعادات المرذولة والإصرار عليها؛ وما ذاك إلا لسبب الأمية الدينية والتعبدية.
3- الفهم الخطأ للقَوامة في الأسرة، فكما جاء عند ابن ماجة: «خِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ» [حديث صحيح] فليست القوامة قسوة، وليست مقاما يضاف إلى الرجل للتكبر أو التعالي على المرأة، فلربّما كان من النساء من هنّ أفضل من الرجال!!
4- غياب العاطفة والحب أحيانًا كثيرة حيث قال الله -سبحانه وتعالى- : {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] ومن العشرة بالمعروف: الكلمة الطيبة من حب وعشق وهيام وغزل ودلال، كما كان يفعل سيدنا رسول الله- صل الله عليه وسلم- الذي لم تمنعه مشاغله من التصريح لزوجه بأنه يحبها، فأظهر وفاءه لأمنا خديجة -رضي الله عنها- حتى بعد وفاتها بقوله كما جاء عند مسلم من حديث عائشة: «إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا»، وهو الذي صرّح بحبه لأم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- يوم سُئِلَ: من أحبّ الناس إليك؟، فعَنْ عَمْرِو بْنِ العَاصِ أَنَّهُ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْكَ؟ قَالَ: “عَائِشَةُ”. قَالَ: مِنَ الرِّجَالِ؟ قَالَ: “أَبُوهَا” [رواه الترمذي في السنن وهو حديث صحيح].
5- عدم التوازن بين الحنان والقسوة في التربية للأبناء؛ فلعلنا نجد أسرًا تربي أبناءها بالحنان والتدليل الزائد، حتى رأينا شبابًا وبناتا قد انحرفوا؛ لعدم وجود مراقبة ولزيادة الحنان غير المنضبط، وأسرًا أخرى تربي أبناءها على القهر والعنف، فتخرج أجيالا مشوهة تعادي البشر والمجتمع وتنحرف انحرافات سلوكية عنيفة، فلا أقل من التوازن في هذا الشأن.
6- اعتبار الطلاق سيفًا أو سلاحًا في وجه المرأة، يستخدمُه الرجل متى شاء.
7- التناقض في أقوال الوالِدَيْن وسلوكياتهم وهذا ما يسمى ب (الخلل التربوي) و (القدوة المختلّة)؛ فالآباء والأمهات الذين ينسوْن أنّ الأبناء يقلّدون بما يرونه بأعينهم أكثر مما يسمعونه بآذانهم، قد عرّضوا أبناءهم للعراك الداخلي، أيصدّق ما يقال له أم يراه بعينه؟ فلابد من أن يكون الآباء والأمهات أصحاب أخلاق فاضلة سليمة، وأن يكونوا قدوة أمام أبنائهم وبناتهم.
8- الفراغ وعدم الإفادة من الوقت في الحياة الأسرية.
9– العنف الأسريّ وله صور متعددة، منها:
– العنف اللفظي.
– العنف الماديّ المحسوس.
– الثقافة الذكوريّة والعمل على التفريق بين الأبناء والبنات؛ لثقافات واعتقادات غير صحيحة.
اقرأ أيضًا: انتشار العنف في المجتمع لعام 2021
10- غياب ثقافة التعاون الأسري عن كثير من البيوت، وقد ثبت عند البخاري في الصحيح لما سُئِلَت أم المؤمنين عائشة عن رسول الله، ففي الحديث عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، سَأَلْتُ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، مَا كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَصْنَعُ فِي البَيْتِ؟ قَالَتْ: «كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ، فَإِذَا سَمِعَ الأَذَانَ خَرَجَ».
11- غياب الشورى الأُسَرِية: قال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، وقال أيضًا: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} [البقرة: 233]، وهذا رسول الله محمد سيد الناس لم يتأفف أن يستشير زوجه ويأخذ برأيها، حتى كان رأيها سببا في حماية المسلمين من خطورة مخالفة أمر النبي يوم الحديبية.
اقرأ أيضًا: النقاش الصحي..ثقافة فقدت فهدم المجتمع
ما هي صفات الأُسْرة المثالية التي ينشدُها الإسلام؟
أولا: أسرة ربانية:
هي أسرة ربانية، أسرة تعرف لماذا هي في هذه الدنيا؟
وما هي الغاية التي من وراء هذه الدنيا؟
وما هي رسالتها في هذه الحياة؟، أسرة تعمل على تربية أبنائها وتنشئتهم على العقيدة الصحيحة والعبادة السليمة، والربانية في حياة الأسرة ليس شعارًا؛ بل هو طريقة حياةٍ وسلوك، وربانية الأسرة وقربها من ربها تضمن صلاح حال الأبناء وحفظهم؛ كما قال القرآن الكريم: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء: 9]، ولنذكر ربانية الأسرة المحمدية، التي قام فيها رسول الله ليلة يصلي لربه، ويقول لزوجه عائشة: «أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» [حديث متفق عليه].
ثانيًا: أسرة تفهم الإسلام فهمًا حقيقيًّا تعيش به وتعيش له:
أسره تفهم أنّ كل حركة في هذه الحياة إنّما هي عبادة لله ربّ العالمين، وتربّي أبناءها على التعبّد الدائم والإعانة على الصلاة، ويقول الله -سبحانه وتعالى-: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163]، نريد أُسْرةً مِن ورَاء هَذا الفهم الصحيح للإسلام تنتج إنسانًا ينبض وجدانه وقلبه وكيانه إيمانًا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا ورسولًا، ويتحرّك أو يسكن وفقا لمنهج الاستسلام لله والرضا به.
ثالثًا: أسرة معينةٌ على الطاعة والعبادة:
فمما لا شكّ فيه أنّ أهمّ ما يميز الأسرة المسلمة الصالحة عن غيرها أن تكون أسرة متعاونة على طاعة الخالق وتنفيذ أوامره، وهذا مثال يحكيه لنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم- كما جاء عند ابن ماجة وأبي داوود في الحديث الصحيح-: “مَن استيقظَ مِن الليل، وأيقظ امرأته، فصليا ركعتين جميعاً، كتِبَا مِن الذاكرين الله كثيراً والذاكرات”. رحم الله تلك الأسرة التي تتعاون على الطاعة والعبادة، أسرة معينة على الطاعة تأخذ بيد أبنائها إلى طاعة المولى جلّ في عُلاه؛ تنفيذًا لأمر الله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132].
رابعًا: أسرة مُسَارِعَةٌ إلى كلّ خير:
ألا ما أجمل أن تعيش الأسرة المسلمة بروح العطاء والبذل والسعي في الخير؛ وتلك بركة من الله على عبد من عباده، فهذا عيسى -عليه السلام- يتحدث عن نفسه حين كان مولودًا أمام قومه، كما ذكر في القرآن الكريم: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم: 30، 31]. وقد أجمع المفسرون أنّ المعنى: «جعلني بركة أينما حللت أو ارتحلت» وهكذا المؤمنون كالغيث أينما وقع نفع!!
وها هي أسرة نبي الله زكريا -عليه السلام- يتحدّث عنها القرآن مادحًا إياها؛ فيقول الله تعالى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 89، 90]. إنها الأسرة التي تتشارك وتتعاون من أجل إسعاد الآخرين وتعمل على بثّ الخير في ربوع المجتمع، ويبقى في ميزانها ما قدّمت وبذلت للمجتمع والبشرية، فبدلاً من أن يكون في ميزانها السوء والفواحش، يكون في ميزانها الخير من القول والعمل والعطاء.
خامسًا: أسرة تحفظ الفطرة ونقاءها:
فالذي يريده الإسلام من الأسرة أن تعمل على حفظ نقاء الفطرة الإنسانية التي خلق الله البشر عليها؛ فعند البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ»، فلابد من الحفاظ على هذه الفطرة وعدم تدنيسها؛ حماية للأبناء أولا: من الانحراف عن هذه الفطرة، وحماية للمجتمعات؛ فالمجتمعات الشاذّة في أخلاقها وقيمها إنما جاء شذوذها من شذوذ المربي الأول للولد أو البنت، شذ عن الفطرة السوية في ألفاظه، ملبسه، كلماته، حركاته، علاقاته، معاملاته وسلوكياته.
سادسًا: أسرة مشجعة محفّزة ترْعى الموهوب وتعمل على إطلاق مواهبه وتنميتها:
ولنرى رسول الله يوم أن دخل على بيته -وهو عند أم المؤمنين حفصة- أخو حفصة (عبدالله بن عمر) وإذا برسول الله يقول له: «نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللهِ لَوْ كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ» كما روى البخاري وذكر عن سالم: «فكان بعد لا يترك قيام الليل ولا ينام منه إلا قليلاً»، ولذلك نريد أُسَرَنَا أُسَرًا مشجّعة للأبناء والبنات؛ للوصول إلى طموحاتهم المشروعة الناجحة، نحفّز هممهم ونشجعهم للوصول إلى ما يطمحون.
أذكر أن هندًا بنت عتبة وقفت يومًا أمام أحد أسياد قريش وهي تلاعِب ولدهَا معاوية -وكان صبيًّا صغيرًا-، فقال لها هذا الرجل: (إني لأرجو لولدك هذا أن يسود قريشًا) فردّت قائلةً وهي غاضبة وقد نظرت لولدها: (ثكلته أُمّه إن لم يسد الدنيا كلها)، هكذا تكون التربية والتشجيع للأبناء والبنات، فاحرصوا على إيقاظ طموحات الأبناء وتوجيهها توجيهًا حسنا؛ لخدمة دينهم ودنياهم.
سابعًا: أسرة مربية على الأخلاق والقيم:
أسره تعمل على تربية البدن والروح معًا، وكذا العقل والعاطفة معًا، فأين أسر المسلمين من تربية الأبناء على الأدب والبنات على الحياء والعفّـة، إن تربية الأبناء على الأخلاق الطيبة والقيم الفاضلة لهو أساس من أسس البناء لا الهدم، والتعمير لا التخريب، وها هو رسول الله -صلى الله عليه وسلّم-: كما يحكي لنا الإمام أحمد في مسنده، والحديث حسن لغيره، وفيه عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّهُ قَالَ: أَتَانَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي بَيْتِنَا وَأَنَا صَبِيٌّ، قَالَ: فَذَهَبْتُ أَخْرُجُ لِأَلْعَبَ، فَقَالَتْ أُمِّي: يَا عَبْدَ اللهِ تَعَالَ أُعْطِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-َ: “وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيَهُ؟” قَالَتْ: أُعْطِيهِ تَمْرًا، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-َ: “أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تَفْعَلِي كُتِبَتْ عَلَيْكِ كَذْبَةٌ” هكذا تكون التربية، وبمثل هذه التربية ينشأ أبناؤنا على القيم والأخلاق، يتعلّم الصدق والأمانة، ولا يغدر ولا يخون.
وأخيرًا يجب أن تجاهد كل أسرة للعمل على لم شملها، وأن تكون حريصة كل الحرص على تكوين أسرة مثالية؛ لكي تكون نواة صالحة لمجتمع صالح بأخلاقه وقيمه السامية التي فطرنا الله عليها.
اقرأ أيضًا: إختيار شريك الحياة