كيف تعامل الفراعنة مع أزماتهم الاقتصادية؟ نحن الآن وسط سيل من الأخبار غير السارة عن تعويم الجنيه المصرى أمام الدولار للمرة الثالثة هذا العام، أنباء عن أن الجنيه فقد أكثر من ستون بالمئة من قيمته فقط فى عام 2022 أمام الدولار وبقية العملات، مما تسبب في ارتفاع جميع الأسعار حتى البسيط والمصري المحلي منها وصارت أحاديث الناس في كل مكان عن سعر ساندوتشات الفول والطعمية وعلب الكشري بعد أن أصبحت أسعارها لأصحاب النفوذ وعلية القوم، بعد أن كان الناس تتحدث عن أسعار الذهب والفضة والسيارات وكيف ارتفعت أثمانهم إلى مستويات خرافية.
ووسط تلك الأخبار سألت نفسي سؤالا: لماذا لم نسمع أو نقرأ عن أن الفراعنة أو المصريون القدماء قد أفلسوا؟ أو أن التضخم أصابهم أو أنهم تعثروا في دفع ما عليهم من ديون أو أنهم لم يكملوا بناء الهرم أو معبد الدير البحرى مثلا لعدم وجود أموال في خزينة الدولة.
وأهم سؤال من أين كان الفراعنة يقترضون؟ عندما كانوا لا يستطيعون الوفاء بالتزاماتهم المادية للشعب، من كان أغنى من المصريين ليقرضهم؟ خاصة مع هذا البذخ والرفاهية التي كانوا يزينون بها مقابرهم من أطنان الذهب والفضة التي كانوا يصنعون بها توابيت وأقنعة وجسمان وأدوات المتوفى وحاشيته وأثاثه المنزلي المطعم بالذهب والأحجار الكريمة والملابس حتى الحذاء والشبشب كان مطعما بالذهب كما رأينا في تحف الفرعون الصغير توت عنخ أمون، الذي لم يبقَ في الحكم إلا أقل من عامين، فما بالك بمقبرة رمسيس الثاني أو تحتمس الثالث أو حتشبسوت أو غيرهم من الملوك العظام لتلك الحضارة التي لازالت تبهرنا ونتعلم منها إلى الآن.
كل هذه الأسئلة بحثت عن إجابات شافية لها وأحب أن أشارككم في تلك المعلومات والاكتشافات التي لم أعلم عنها شيئا مع أنني أدعي أنني قارئا جيدا للتاريخ المصري القديم.
فهيا معي فى رحلة عبر السنين والقرون لنهرب من مشاكلنا اليومية وأسعار الفول والطعمية والبطاطس ونذهب لنشاهد كيف بنى المصريون القدماء حضارتهم الاقتصادية المستمرة حتى اليوم، لنتعلم منها قواعد بناء الحضارة وكيف نخرج من أزماتنا المالية والاقتصادية على المستوى الشخصي والقومي والوطني.
كيف تعامل الفراعنة مع أزماتهم الاقتصادية؟
المفاجأة الأولى:
المصريون القدماء بنوا حضارتهم بلا نقود:
هل هذا معقول كل تلك المباني والمعابد والقصور والأهرامات بنيت دون مقابل بلا نقود؟!
لنوضح الأمر يجب أن نعود إلى أسس بناء الحضارة المصرية القديمة ألا وهي الإنسان المصري هذا هو العمود الفقري لتلك الحضارة وليس الذهب أو الفضة أو الفتوحات أو التوسعات، علما بأن أساس الحضارة المصرية جاء من الإنسان العامل وعمله هذا كان مقياسا لمكانته في المجتمع.
فإن كان عمله بسيطا لا يحتاج إلا لقوة بدنية فقط فهو يحصل على أجر وعائد بسيط ومثال على ذلك المشتغلون في الزراعة، فنون الزراعة وأسرارها ومواقيتها وأساليبها كان يتعلمها الطفل المصري قبل أن يتعلم السير على قدميه يرضعها من أمه مع لبنها.
لهذا كانت الزراعة مهنة كل المصريين وكما تقول الأسس الاقتصادية كلما كان العرض كثيرا كان الثمن قليلا، لهذا كان أجر الفلاح المصري أقل أجرا ويحصل عليه مباشرة من المحصول الذي يزرعه، أما بقية المحصول فكان لمالك الأرض أو للدولة المصرية التي كانت تحصل على ضرائبها مما تنبت الأرض قمح أو شعير أو أي محصول تمت زراعته.
اقرأ أيضا: الزراعة طوق النجاة للاقتصاد المصري 2022
أما الحرفيين وأصحاب الصناعة والابتكار وهم من يعملون بأيديهم وعقولهم ويمضون السنوات في تعلم تلك الحرفة، حتى أصبحوا ماهرين في تلك المهنة.
وهؤلاء الحرفيون يشكلون الطبقة الأعلى في السلم الاجتماعي بعد المزارعين.
ويتقاضى أيضا أرباب تلك المهن والحرف أجورهم من ثمار الأرض زرعا أو طائر أو حيوان وتلك ثروتهم وأموالهم ويعطون منها لمساعديهم وتلاميذهم الذين يتبنوهم عدة سنوات ليعلموهم أسرار حرفتهم وصنعتهم تلك.
ثم يرتفع السلم الاجتماعي درجة أخرى، حيث يتعانق العمل اليدوي والعقلي والخيال الإبداعي وهؤلاء كانوا بناة المعابد المهندسين وعمال البناء والنحاتون والأطباء والكهنة قادة البلاد الروحنيين والقادة العسكريون.
وكانت أجورهم على قدر عطائهم وحسب حاجة الشعب والدولة لهم والجميع يأخذ أجره من محاصيل الأرض، فإن كانت سنة سعيدة ووفاء للنيل يفرح الجميع ويأخذون أضعاف ما يستحقون وبالطبع عند تغير الأحوال يرضوان بأقل بكثير مما يستحقون فقط ما يحفظ عليهم حياتهم.
وهكذا بنيت الدولة المصرية القديمة نفسها على أساس العمل وليس العملات الذهبية والفضية، بل كانت قيم العمل والإنتاج هي معيار مكانة المصري في السلم الاجتماعي وليس أمواله أو ذهبه.
ولهذا لم يحدث تضخم أو إفلاس للمصريين القدماء ولم يقترضوا من صندوق النقد الدولي، لقد كانوا يزرعون ما يأكلون ويصنعون ما يحتاجون ولا يستوردون شيئا، بل يخترعون ويبتكرون ما ليس موجودا عندهم ويفرضه التطور الإنساني، لذلك عرفنا كيف تعامل الفراعنة مع أزماتهم الاقتصادية؟
اقرأ أيضا: الفراعنة و طب الأسنان .. معجزات فرعونية الجزء الخامس
المفاجأة الثانية:
أول عملة مصرية تم سكها في عهد الأسرة الأخيرة الثلاثون أيام الملك تاخوس واسمها النوب نفر أي الذهب الخالص، تم سكها عام ٣٥٠ قبل الميلاد.
ولا يوجد من تلك العملات إلا عشرين عملة اكتشفت حتى الآن، لهذا فهي أغلى العملات القديمة.
وسبب سكها أن مصر كانت في حروب مع الدولة الفارسية ولأول مرة احتاجت إلى تجنيد مرتزقة يونانيين وهؤلاء المرتزقة أرادوا أن يأخذوا أجورهم ذهبا كما كان في بلادهم، هنا اضطر أخر الملوك المصريين أن يتنازل عن أهم أساس للحضارة المصرية وهو العمل واستورد جهود وابتكارات واختراعات الآخرين، ظنا منه أنه سيفوز لكنه نزع الحجر الأخير في هرم الحضارة المصرية فانهار هذا البناء وسقطت مصر في أيادي الاحتلال الفارسي ومن بعده اليوناني والإسكندر ثم البطالمة ثم الرومان ومن بعدهم البيزنطيبن حتى وصلنا إلى الإنجليز و الأمريكان.
وهنا يجب أن نعود إلى الحاضر بمشاكله ونار الأسعار التي لا تنطفئ، لكن يجب أخذ الخبرة من أجدادنا القدماء في كيفية تعامل الفراعنة مع أزماتهم الاقتصادية؟ ومحاولة تطبيق هذه الطرق التي قامت عليها الدولة المصرية القديمة ألا وهي الاعتماد على المصري وصناعته وزراعته والتخلي عن مساعدة الخارج سواء بالاستيراد أو أم منح تقدم لها.
اقرأ أيضا: الزراعة بداية عصر النهضة المصرية في عهد محمد علي
اقرأ أيضا: أشهر معالم الحضارة البابلية