قبل الحديث عن القوة الناعمة المصرية ومكوناتها الفكرية والحضارية، يجب التأكيد على أن العالم كله يعلم أن لمصر ثقلًا حضاريًا وتاريخيًا لا يمكن تجاوزه أو حصره، فضلًا عما تتمتع به من الموقع الهام والاستراتيجي، وما تخطط له من خطط تنموية جديدة جعلتها محط أنظار دول العالم.
خاصة بعد ما مرت به من أحداث سياسية منذ ثورة يناير 2011 وحتى عام 2014، حيث أظهرت دورها المؤثر وتجربتها الفريدة في استعادة استقرارها، وعلاج الفجوات المجتمعية خاصة بعدما حاولت التيارات المتطرفة سيادة المشهد، قامت مصر من جديد بصمودها المعروف وطورت بنيتها التحتية، لتقطع هذه الصفحات المؤلمة وتضعها في طي النسيان.
ما المقصود بالقوة الناعمة؟
ظهر مصطلح القوة الناعمة في فترة التسعينيات على يد المفكر السياسي (جوزيف ناي)، الذي وصف القوة الناعمة بأنها القدرة على التأثير في الآخرين، والقدرة على جذب الأنظار نحو ما تريد بالضغط دون استخدام القوة؛ معللًا هذا الوصف بأن أفكار الدولة وهويتها وإنجازاتها وتاريخها وفنها وثقافتها، كل هذه الأشياء هي التي تفرض احترام شعوب العالم لها.
وقد قسم ذلك إلى ثلاث مجموعات:
- الثقافة والأدب والفن والتعليم.
- قيم الدولة ومبادئها السياسية.
- سياسة الدولة الخارجية وعلاقتها بالدول الأخرى، وإذا كانت سياستنا مشروعة في عيون الآخرين، عند ذلك تتسع قوتنا الناعمة.
اقرأ أيضًا: 125 عاما على ميلاد كوكب الشرق.. أم كلثوم أسطورة لا تنتهي
القوة الناعمة.. الضغط دون استخدام القوة:
القوة الناعمة هي القدرة على امتلاك النموذج الفكري والحضاري والتنموي القادر على التأثير في الآخرين، والقدرة على تحقيق الجاذبية لجذب الأنظار نحو ما تريد من ضغط دون استخدام القوة، فأفكار الدولة ومبادئها وهويتها وإنجازاتها وتاريخها وفنها وثقافتها هي التي تفرض احترام شعوب العالم لها.
مؤشر القوة الناعمة ومعايير التقييم المستخدمة:
تُعتبر قوة الدولة الناعمة من العوامل التي تؤثر في مكانة الدولة وقيمتها بين الدول، وقد احتلت مصر في عام 2012م المرتبة 34 عالميًا بتقدم 4 مراكز عن عام 2020، بين عدد من دول العالم بلغ 30 دولة تشهد تقدمًا ملحوظًا، وأشاد الجميع بمقدرة مصر على النهوض من جديد، وحصلت على ميداليتين ذهبيتين في مجال الثقافة، ومجال الإرث الغني، إضافة إلى الكثير من الإشادات الدولية الكبيرة بمجهودات مصر وقت جائحة كورونا، ودورها الفعال في علاج فيروس سي ونقل خبراتها إلى الدول العربية وإلى أفريقيا، بالإضافة إلى العديد من المشروعات القومية المصرية في الدول الأفريقية.
تأثير القوة الناعمة المصرية في المنطقة العربية:
ظهرت آثار القوة الناعمة المصرية في المنطقة العربية قبل انتشار هذا المصطلح في التسعينيات، فمنذ عشرات السنين والعالم العربي كان وما زال يعيش على هذه القوة من خلال فنون مصر السينمائية والغنائية والدراما التليفزيونية والكتب الثقافية، التي كانت ولا تزال تجذب الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج، بالإضافة إلى الأفكار والقيم المصرية والمبادئ المجتمعية التي تراها مزروعة داخل كل منزل وبين أفراد كل أسرة مصرية.
من أين جاءت قوة مصر الناعمة؟
استمدت مصر قوتها الناعمة من عدة مصادر، أهمها:
- التاريخ العريق، والإرث الحضاري الفريد.
- التطور العمراني والاكتشافات الأثرية الضخمة والمتاحف الغنية مثل: المتحف المصري الكبير، وموكب نقل المومياوات، حفل طريق الكباش بالأقصر.
- العنصر الرياضي والثقافي، حيث إن موقع مصر الاستراتيجي وقوة بنيتها التحتية جعلها أرضًا تجذب إليها بطولات دولية عديدة مثل: استضافة مصر لكأس الأمم الإفريقية عدة مرات كان آخرها في عام 2019م، واستضافة منافسات كأس العالم لكرة اليد في دورتها السابعة والعشرين للرجال عام 2021م، واستضافة بطولة كأس العالم للرماية عام 2022م.
- اعتماد الأمم المتحدة (منتدى شباب العالم) كمنصة دولية؛ تقديرًا لما يقوم به المنتدى في مناقشة القضايا المعاصرة المتعلقة بالشباب ودورهم الفعال في تحقيق أجندة التنمية المستدامة وصولًا لعام 2030.
اقرأ أيضًا: أحمد زكي.. فن النمر الأسود يتجدد في ذكرى ميلاده الـ 77
دور الثقافة والفنون في القوة الناعمة:
تأثير الثقافة والفنون له النصيب الأكبر في قوة مصر الناعمة، إذ تعتبر مصر من الدول الأولى في الانفتاح على الثقافات المختلفة وتبادل الخبرات الثقافية مع الدول الأخرى، من خلال جعل الفن رسالة سلام للعالم واعتباره رسالة إيجابية هدفها تصحيح المفاهيم الخاطئة وزيادة الوعي بمفهوم الهوية الوطنية.
وقد قامت مصر باستضافة العديد من المهرجانات العالمية، فضلًا عن تفرد الفنون المصرية الممزوجة بالثقافات والحضارات المختلفة والمميزة، وتشهد على ذلك دار الأوبرا المصرية، ومتاحف مصر، ودار الكتب، والمسارح، والسينمات، والنهضة الفنية في مصر في المجالات المختلفة.
اللهجة المصرية جزء من قوة مصر الناعمة:
يجب ألا ننسى اللهجة المصرية وتأثيرها في الثقافة المصرية وانتشارها، فقد لعبت دورًا كبيرًا في تقوية العلاقات الثقافية والاجتماعية، وتحقيق المزيد من التقارب بين الشعوب في المنطقة العربية، فهي اللهجة التي فهمها الجميع وتحدث بها بكل سهولة، وقد ساهمت الدراما والسينما المصرية على فهمها وساعدت على انتشارها بشكل كبير.
هل المنافسة تقلل من قوة مصر الناعمة؟
المنافسة بالطبع هي حق مشروع لأي طرف، وبالفعل يوجد هناك سعي من دول عربية أخرى إلى إثراء المحتوى الأدبي وتقوية عناصر القوة الناعمة لديها، وهي مجهودات واضحة وجيدة ولا يستطيع أحد التقليل من قيمتها، حيث تحاول هذه الدول الارتقاء في كافة المجالات التي تضيف وتثري القوة الناعمة في الوطن العربي.
ولكن بالرغم من ذلك تبقى مصر هي صاحبة الريادة في المنطقة؛ لأنها تمتلك المقومات منذ قديم الأزل، الملهمة التي تستمد منها كافة الدول تجربتها، وصاحبة الفضل الكبير في نقل الثقافات إلى مختلف الدول، وأيضًا التي قامت بصياغة عقل ووجدان المنطقة العربية، ووصلت أبعد من ذلك إلى أفريقيا وآسيا، فكانت مصر أول من أرسلت البعثات التعليمية إلى الدول العربية والآسيوية والأوروبية، وقدمت العديد من المنح التعليمية لطلاب العالم.
ولا يجب أن ننسى دور الأزهر الشريف والكنيسة المصرية ودورهما البارز كأحد أدوات مصر الهامة في علاقتها بالدول، وكلنا يعلم العدد الكبير من الشخصيات المصرية المؤثرة من المثقفين والمفكرين والفنانين والرياضيين وغيرهم، حيث فرضت مصر من خلال قوتها الناعمة سيطرتها على المنطقة.
ولهذا لا يمكن أن يتأثر رصيد مصر من قوتها الناعمة بهذه الجهود العربية الأخرى التي تهدف للنهوض بمقدراتها الثقافية والفنية؛ فالقوة الناعمة المصرية تعتبر جزءًا من صميم المجتمع العربي ووجدانه ولا يمكن أن تغيب، فمصر هي البداية دائمًا ولطالما كان مقياس النجاح الفني والثقافي والأدبي في أي بلد من الوطن العربي هو تحقيق هذا النجاح في مصر، فالمحروسة هي عنوان الشهرة والنجومية.
كيفية تفعيل دور القوة الناعمة اقتصاديًا؟
يرى أكثر المراقبين والمحللين أن القوة الناعمة في مصر أصابها تراجع وانحدار، ويرجع ذلك إلى عدم الاستقرار الاجتماعي بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية والسياسية، بالإضافة إلى التأثير السلبي الذي أصاب الثقافة المصرية، بما فيها الثقافة الدينية الوسطية التي تغيرت بسبب أنماط خطابية فقهية محافظة ومتشددة، حتى إن محاولة مصر مؤخرًا لاستعادة دورها وقوتها الناعمة، تعرضت لضغوط متعددة خاصة بعد ثورة 25 يناير2011، حيث سعت بعض الدول النفطية لبسط هيمنتها ووضعيتها الثقافية، حتى يظل الدور المصري معتقلًا تحت وصاية المال الخليجي.
بالإضافة أيضًا إلى المنافسة المستمرة بين دول الإقليم العربي لوراثة الدور الثقافي المصري، خاصة من خلال تقليد التجربة المصرية بمكوناتها وبنيتها الأساسية، وبروز أدوار ثقافية في بعض دول المنطقة وساعد على ذلك تراجع الحريات الفكرية وظهور ضغوط خارجية على عمليات الإبداع والبحث الأكاديمي.
وهناك أيضًا من الأسباب التي قللت دور القوة الناعمة المصرية وأدت إلى تراجعها، فنيًا أو موسيقيًا سنجدها واضحة في جذب الملحنين والفرق الموسيقية لدعم الثقافة الفولكلورية الخليجية، والفنانين من المطربين والمطربات القادمين من هذه المنطقة، وقيام بعض القنوات الفضائية في شراء معظم التراث السينمائي المصري، واحتكار بثه تلفازيًا عبر قنواتها الفضائية المتخصصة فقط، بالإضافة إلى احتكار أهم المواهب الفنية عن طريق قيام بعض الشركات بتوقيع عقود مع بعض المطربين والملحنين المصريين مقابل إعطائهم أجور ضخمة.
وعلى الرغم من الدور الخليجي لمحاولة تقزيم دور مصر وثقافتها على مدى سنوات طويلة تقارب نصف قرن، فإن القوة الناعمة المصرية، كما قال المفكر والأديب الكبير الراحل د. جلال أمين: “لا يمكن أن تختفي أو حتى تغيب؛ لأنها جزء من صميم المجتمع، فالمسرح مثلًا في مصر موجود دائمًا، لكن إما أن تمتلك يوسف وهبي ونجيب الريحاني، وإما أن تجعله مسرحًا ضاحكًا فقط ليلبي رغبات السياح العرب الخليجيين، وكذلك الموسيقى أيضًا موجودة دائمًا، لكنها إما أن تكون لزكريا أحمد والسنباطي وعبد الوهاب، وإما أن تكون مجرد نغمات هابطة لا تصلح إلا للرقص البدائي، وحتى الدراما المصرية بعد وجودها الكبير وتأثيرها عربيًا وإقليميًا، إلا أنها انسحبت خلال السنوات الماضية لمصلحة الدراما التركية، التي اكتسحت الفضاء العربي، وتم توظيفها سياسيًا لصالح جهات بعينها، وبعد ذلك كان من الطبيعي أن يتراجع الأزهر باعتباره جزءًا من هذه المنظومة الكبيرة”.
اقرأ أيضًا: الرحلة الذهبية لموكب نقل المومياوات الملكية2021
كيف تستعيد مصر تأثير قوتها الناعمة؟
يجب معرفة أن أية محاولات لمصر من أجل العودة إلى فضائها العربي ثقافيًا، وفكريًا، وزيادة تأثير قوتها الناعمة وتوظيفها بذكاء، تتطلب الآتي:
- أولًا: أن تدرك الدولة بأجهزتها السياسية قوة مصر وتأثيرها الكبير في المنطقة العربية، وألا تسمح لأي قوة أخرى مهما كانت بأن تسحب منها قوتها الناعمة، التي أكدت تأثيرها وسيطرتها على المنطقة خاصة في مرحلة تولي الرئيس الراحل جمال عبد الناصر زمام الرئاسة، خاصة وأنه كان شديد الاهتمام بهذه القوة كثيرًا، ويعلم أهميتها جيدًا في السيطرة المصرية العربية، حتى أنه كان يحضر حفلات غنائية للسيدة أم كلثوم بنفسه.
- ثانيًا: التعاطي الجيد مع أي إنجاز رياضي حقيقي، فإننا نرى دول العالم تستخدم أسماء هامة مثل: رونالدو وميسي وغيرهم، كجنود في حربها الناعمة، فإن مصر تمتلك الكثير مثل: محمد صلاح، ونور الشربيني، والشوربجي، ومحمد إيهاب، وهداية ملاك، وسارة سمير وغيرهم، ولكنها تحتاج إلى العمل الجاد من أجل الاستثمار في هذه القوى الرياضية لتكون إحدى عناصر قوتها الناعمة ليس في أفريقيا فحسب، بل في كل أنحاء العالم أيضًا.
وختامًا عزيزي القارئ، تناولنا بشكل تفصيلي القوة الناعمة تعريفًا واصطلاحًا وألقينا الضوء على القوة الناعمة المصرية باعتبارها مصدر الوعي والفكر والثقافة في المنطقة العربية والخليجية والأفريقية، وكيفية جعلها جندًا من جنود التنمية والبقاء الحضاري والثقافي.
اقرأ أيضًا: افتتاح المتحف المصري الكبير… أهم أحداث 2023
كتبت: سحر علي.