ها هي رحلة الإسراء والمعراج المباركة التي تناولتها كتب السيرة والتراجم والتاريخ، ستبقى دُرّةً في جبين السيرة النبويّة العطرة، وقد امتلأت بالكثير من الرموز والدروس المستفادة، التي لا بد من التوقف عندها، لعلها تكون زادًا لنا في تلك الصحراء القاحلة، وتكون بمثابة طوق نجاة لنا.
وفي حديث خاص مع الأستاذ الدكتور عادل هندي أستاذ دكتور مساعد في كلية الدعوة الإسلامية بجامعة الأزهر، سوف نتعرف معًا على بعض القيم من رحلة الإسراء والمعراج، لتكون زادًا لنا في رحلة الحياة.
أولًا قيمة التوكل في رحلة الإسراء والمعراج:
ففي رواية الإسراء والمعراج، قيل: “يا رسول الله.. لم ربطت البراق في الحائط والجدار؟ إنه ما خُلق إلا لك!”، إنها رمزية أخرى في معنى التوكل والأخذ بالأسباب، وألا تترك شيئًا في حياتك للصدفة أو التوكل الزائف، إنه قانون الأخذ بالأسباب لا فوضى ولا عشوائية.
اقرأ أيضًا: 7 منح ربانية من حرب إبادة فلسطين
ثانيًا قيمة الرؤى والاستفادة من قصص السابقين:
فالسعيد من سعد بغيره، والشقي من اعتبر به غيرُه، لقد رأى الرسول ما رأى؛ رأي عين لا رؤيا روحية -على خلاف- إلا أن المعجزة تقتضي أن يكون بالبدن والروح معًا، وما تقع الرؤيا إلا من بصر في جسد، فالروح لا ترى إلا المعنى لا المادة المحسوسة.
ثالثًا قيمة البيت المقدَّس (الأقصى) وما حوله وواجبنا نحوه:
لقد أمّ النبي كل الأنبياء في المسجد الأقصى الشريف؛ فلم يتقدم عليه غيره، هنا إبراهيم، وهذا سليمان، وذاك داوود، وها هو موسى، وهذا المسيح عيسى، الكل يتراجع ويتقدم محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولا يُؤمّ الرجل في بيته، فصلى النبي محمد بهم وانتقلت القيادة إليه، إنها قيمة أخرى يجب أن يفهمها كل الناس، تعني مسئولية وتكليف بحماية البيت المقدَّس (الأقصى) وما حوله.
رابعًا قيمة الاستئذان وعدم اقتحام البيوت إلا بإذن حراسها وساكنيها:
فقد كان جبريل يستفتح، يستأذن عند كل سماء حتى يُفتح له، فلا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتستأذنوا، لا تجسس، لا ترصد، لا ترقب لجيرانك.
اقرأ أيضًا: تعرف على 11 نية عند صيام يوم عاشوراء
خامسًا قيمة النظام:
رأينا في رحلة الإسراء والمعراج النظام الذي كانت عليه السماء هو تربية على النظام والانضباط، مما ينبغي أن يكون عليه حال الأمة وبنيها، سعي بتخطيط، عمل بإتقان، بذل بنظام، فإذا أردنا ريادة ونجاحًا فائقًا فلنحيا بالنظام.
سادسًا قدر النبي -صلى الله عليه وسلم- ومكانته العالية عند ربه:
لقد كان لرحلة الإسراء والمعراج عبرة حقيقية في إثبات قدر النبي وعلو قيمته، فها هو ربه -عزّ وجلّ-، يبعث إليه جبريل وملك الجبال بعد اعتداء أهل الطائف عليه ويدعوه لمقابلته ويريه آيات من آياته، يأمر بغسل قلبه، وجعله إمامًا للأنبياء في الصلاة، وفتح له أبواب السماء، ويرفع قدره على كل الأنبياء؛ ليعلنها مدوية أن النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- هو أشرف الناس وأعلاهم قيمة ومكانة، فما وصل إلى ما وصل إليه الرسول أحد، لا نبي ولا ملك وفي ذلك درس آخر في أنّ الله -عزّ وجلّ- لا يخذل أولياءه وأحبابه ولا يفضحهم، بل يؤيدهم وينصرهم على من عاداهم وإن طالت الفترة.
سابعًا الابتلاء ضروري لغربلة الصف المؤمن وفضح المنافقين (إنه اختبار الإيمان):
قد يتعجب البعض من شدة الابتلاء في يوم من الأيام، ويتساءل: “لماذا يحدث كل هذا البلاء بالمسلمين؟ أليس الله بقادر؟ هل من نصر لعباد الله المصلحين؟” وتكثر التساؤلات، لكن يأتي الرد: “فمع البلاء وشدته، يتم غربلة الصف، ويتم فضح المنافقين”، فلا يثبت إلا أهل الإيمان الحقيقي الذين يثبتون في وجه الشدائد، فلا تقام الدول، ولا تبنى الأمم إلا على أكتاف الثابتين الصادقين في إيمانهم ويقينهم بربهم؛ فالأيدي المرتعشة، والقلوب المهزوزة لا تقوى على البناء.
كما أن الله تعالى قادر على أن ينصر أهل الإيمان، لكن له في ذلك حكم، منها كما يقول تعالى: [وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد: 4]، ومنها كما قال عزّ وجلّ: [إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 140: 142].
فلما عاد الرسول وحكى للناس في مكّة عن رحلة الإسراء والمعراج، ثبت من ثبت، واهتزّ إيمانُ من اهتزّ؛ «فَارْتَدَّ نَاسٌ مِمَّنْ كَانَ آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ»؛ لأنّ الهجرة قادمة، ومعارك طاحنة ستأتي فلن يثبت لها إلا الصادقون في الإيمان واليقين. وتلك حكمة الله من البلاء، ودورنا أن ندعو الله تعالى أن يثبتنا بقولنا: «يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» [سنن الترمذي: حديث رقم (2140)، وقال عنه الشيخ شاكر والألباني: صحيح].
اقرأ أيضًا: تعلم مسامحة الآخر في 6 طرق
ثامنًا عظيم ملك الله وقدرته التي لا تعادلها قدرة:
قد أظهرت لنا رحلة الإسراء والمعراج عظيم ملك الله وقدرته؛ ففي الحديث أيضًا عند مسلم: «فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بِي إِلَى سِّدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ، وَإِذَا ثَمَرُهَا كَالْقِلَالِ”، قَالَ: “فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللهِ مَا غَشِيَ تَغَيَّرَتْ، فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا مِنْ حُسْنِهَا،….».
وكأنها رسالة تحدٍّ لمن يدعي امتلاك القوة في الأرض؛ فالله العلي القادر، هو القوي، ولا تعجزه قوة ولا قدرة، يعلم كل شيء، ويقدر على أي شيء، فليتعظ كل إنسان، ولا يظلم أو يبطش، أو يستخدم قوّته في التسلّط على خلق الله.
تاسعًا تبادل الخبرات وتلاقح الأفكار في قصة الإسراء والمعراج:
نستفيد أيضًا من قصة الإسراء والمعراج تبادل الخبرات، وتلاقح الأفكار، ففي القصة أن نبي الله موسى -عليه السلام-، عند فرض الصلاة خمسين صلاة، فعاد رسولنا محمد إلى نبي الله موسى، فيقول له: «ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ، فَإِنِّي قَدْ بَلَوْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخَبَرْتُهُمْ». فقد ازدادَ خبرةً تستدعي أن ينقلها لغيره. وهذا دور كل متخصص أن يورث خبرته لغيره؛ ولا يكتنزها، فكاتم العِلْم يلجم بلجام من نار يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلّم: «منْ كَتَمَ عِلْماً ألْجَمَهُ الله بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
عاشرًا الله لا يخذل أتباعه ولا يفضحهم:
هكذا ترينا رحلة الإسراء والمعراج آيات الله في أوليائه؛ فلا يخلهم، ولا يضيعهم، يفتح أبواب سمائه لنبيه ووليه محمد، بعد أن رفضه كثير من أهل الأرض، بعد أن تقطعت به الأسباب، وكأنه يقول له: “يا محمد.. لا تحزن، فربّك يفتح لك أبواب سمائه، فإن كان أهل الأرض قد لفظوا دعوتك، فهنيئًا لك الإسراء والمعراج؛ فأهل السماء يرحبون بك وينتظرونك”.
ولم يخذله وقت أن عاد إلى قومه يبلغهم بما حدث في رحلة الإسراء والمعراج، فاستهزئوا به وكذبوه، وظهر خبث أبي جهل عندما دعاه ليخبر القوم بما رأى وشاهد، لا ليؤمنوا، بل ليستهزئ به ومن معه «فَلَمْ يُرِ أَنَّهُ يُكَذِّبُهُ، مَخَافَةَ أَنْ يَجْحَدَهُ الْحَدِيثَ إِنْ دَعَا قَوْمَهُ إِلَيْهِ» ولمّا بدأ وصف النبي للأقصى، كاد أن يتلعثم فأنقذه الله، وإذ به -صلى الله عليه وسلم- يقول: «ذَهَبْتُ أَنْعَتُ، فَمَا زِلْتُ أَنْعَتُ حَتَّى الْتَبَسَ عَلَيَّ بَعْضُ النَّعْتِ»، قَالَ: «فَجِيءَ بِالْمَسْجِدِ وَأَنَا أَنْظُرُ حَتَّى وُضِعَ دُونَ دَارِ عِقَالٍ أَوْ عُقَيْلٍ فَنَعَتُّهُ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ»، قَالَ: «وَكَانَ مَعَ هَذَا نَعْتٌ لَمْ أَحْفَظْهُ» قَالَ: “فَقَالَ الْقَوْمُ: أَمَّا النَّعْتُ فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَصَاب».
وأخيرًا الإسراء والمعراج منحة في ثنايا المحنة، بعد آلام الاضطهاد والتعذيب والحصار، يأتي الفرج بنداء النبي لرؤية مظاهر قدرة الله تعالى، وكانت بمثابة تربية ربانية رفيعة المستوى لنبينا -صلى الله عليه وسلم-، فإنّ سنة الله في الحياة الابتلاء، وقد سبق بيان الحكمة في وجود الابتلاءات، إلا أنّ المؤمن الصادق، يرى من وراء الشدة فرجًا، ومع العسر يسْرًا، ومن باطن المحنة تولد المنحة، فقد اشتدت برسول الله الشدائد، لكنه لم ييأس، ولم ينس أنَّ له ربًّا قادرًا يقدّر المقادير، ويأذن بفرجه في الوقت الذي يريد لا في الوقت الذي نريد، ويتحقق الفرج بالإيمان والدعاء والصلاة والامتنان لكل النعم في حياتنا.
اقرأ أيضًا: تعلم أخلاق النبي محمد داخل معرض كتاب جامعة الأزهر
كتبت: نيفين رضا الدميري.