هل تساءلت يومًا ما عن بداية موائد الرحمن التي أصبحت رمزًا للكرم والتكافل بين أفراد المجتمع، في هذا المقال عزيزي القارئ نُبحر معًا في رحلة عبر التاريخ؛ لنكتشف أصل فكرة موائد الرحمن: كيف نشأت في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وازدهرت في عهد الخلفاء الراشدين، من أين جاء اسمها؟ من أوائل من أقامها في مصر؟ وماذا كان دوره في نشر هذه الفكرة، كيف تطورت عبر الزمن؟ وكيف تغير شكلها ودورها في المجتمع، وما أهميتها في وقتنا الحالي؟ وكيف تساهم في التكافل الاجتماعي؟
بداية موائد الرحمن:
منذ أكثر من 1150 عامًا، وتحديدًا في يوم الخامس عشر من شهر سبتمبر عام 868م، دخل الأمير أحمد بن طولون مصر، وكان ذلك اليوم يوافق السابع من شهر رمضان المبارك، وبعد استقلاله عن الخلافة العباسية، قرر التقرب من شعب مصر ليساعدوه في مواجهة معارضيه الموالين للخليفة العباسي، فقام بإعداد وليمة كبرى للتجار والأعيان، وأمرهم أيضًا بفتح منازلهم ومد موائدهم لإطعام الفقراء، كما أمر أن يُعلق هذا القرار في كل مكان ويتم تنفيذه، وكانت هذه الواقعة هي الانطلاقة والبداية الحقيقية لفكرة موائد الرحمن في بلاد المحروسة.
وكعادة التاريخ في تكراره كل فترة حيث توجد دائمًا بداية أخرى، فبعد أقل من قرن وتحديدًا في عام 972م، وبعد دخول الخليفة المعز لدين الله الفاطمي مصر، وفي شهر رمضان المبارك قرر هو الآخر أن يُقيم الولائم والموائد الرمضانية تقربًا لشعب مصر، وكان يأمر الحكام وكبار رجال الدولة والتجار والأعيان بإقامة تلك الموائد، وكان يطلق عليها اسم (سماط الخليفة)، وكان المسئولون في قصر الخليفة الفاطمي يوفرون مخزونًا كبيرًا من السكر والدقيق كل عام لصناعة حلوى رمضان، وكانوا يصنعون أيضًا كعك العيد ليتم توزيعه في أخر يوم رمضان.
وبالرغم من الخلاف والجدال القائم بين المؤرخين حول بداية موائد الرحمن، إلا أنه من الثابت والمؤكد تاريخيًا، أن تلك الفكرة بدأت في عصر سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، حيث كان عليه الصلاة والسلام يرسل وجبات الإفطار والسحور مع الصحابي بلال بن رباح لأهل (الطائف)، عندما زارهم في شهر رمضان الكريم، ومن بعده استمرت الفكرة في عهد الخلفاء الراشدين والصحابة وأهل بيته، وقد أسس أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في زمن خلافته دارًا لإفطار الصائمين، وأطلق عليها اسم (دار الضيافة).
اقرأ أيضًا: التراث المضيء.. قصة أصل فانوس رمضان من العصر الفاطمي
مصطلح موائد الرحمن:
ظهر مصطلح مائدة الرحمن بكثرة في عهد (الليث بن سعد بن عبد الرحمن)، الذي يعتبر شيخ الإسلام في عهد الدولة الأموية، وكان محبًا لعمل الخير ومساعدة الفقراء والمساكين، كما أنه كان دائم القيام والإعداد لموائد الإطعام خارج منزله للفقراء وعابري السبيل، ومن هنا جاء المسمى الحقيقي للمائدة على اسم جده (عبد الرحمن)، وصار اسمها موائد الرحمن، وقد استمر الشيخ في إعدادها حتى وفاته في عام 791م.
ثم بعد ذلك وفي بغداد، بعد وصول هارون الرشيد إلى مركز الخلافة العباسية، اعتاد طوال فترة حكمه التي استمرت حوالي 23 عامًا، على إقامة موائد الرحمن في حديقة قصره طيلة شهر رمضان المبارك، ويقال إنه كان يتنكر في ملابس بسيطة ومتواضعة، ليتجول بين الصائمين دون أن يعرفه أحد، حتى يسألهم عن رأيهم في الطعام، ويقوم بتحسينه باستمرار، لتكون الوجبات على موائد الرحمن هي أفضل ما يقدمه للفقراء وعابري السبيل.
موائد الرحمن في مصر الحديثة:
مع بداية مصر الحديثة، وطوال فترة دولة أسرة محمد علي باشا، كان لموائد الرحمن دور مهم وبارز في القصر، واستمر ذلك الحال من الاهتمام بموائد الرحمن لدرجة أنه في عهد الملك فاروق، كان يُسمح بإقامة موائد الرحمن داخل قصر عابدين؛ لاستقبال العمال والفلاحين وعامة الشعب المصري، ثم بعد ذلك تم تخصيص عدد من المطاعم في القاهرة لتكون مائدة طعام للفقراء والمحتاجون، وكانت إدارة الملكية تقوم بدفع قيمة مأكولات الإفطار والسحور، حتى قامت ثورة 23 يوليو عام 1952م، وتوقفت هذه الموائد عدة سنوات لظروف مصر بعد الثورة، حتى عادت لتقام من جديد وبالتحديد في عام 1967م بعد إنشاء بنك ناصر الاجتماعي، وأصبح مشرفًا على تمويل موائد الرحمن من أموال الزكاة.
موائد الرحمن في وقتنا الحالي:
اليوم وفي الوقت الحالي، نجد أن الموائد الرمضانية تنتشر في كل مكان وبشكل كبير، وشارك في إقامتها رجال الأعمال ونجوم المجتمع وبعض المؤسسات الأهلية والحكومية وغيرها، وأصبح للموائد الرمضانية رعاية كبيرة واهتمام ملحوظ، كما أصبح عددها يقدر بآلاف الموائد كل عام، حيث تجد كل شارع أو ميدان في المدن الكبرى لا يخلو من هذه الموائد في شهر رمضان المبارك، وهذا التقليد الرمضاني المميز وما يصاحبه من طقوس وتجهيزات يعبر ويظهر ويوثق التكافل المجتمعي بين المصريين، والوحدة الشعبية بين نسيج الوطن الواحد، خاصة عند مشاركة الأخوة الأقباط من رجال الأعمال وعامة الشعب في إعداد هذه الموائد خلال شهر رمضان المبارك.
وختامًا عزيزي القارئ، بعد تناول بداية موائد الرحمن، سفرة الفقراء وعابري السبيل في شهر رمضان المبارك، ومعرفة بدايتها وتطورها حتى يومنا هذا، يتأكد لنا بما لا يدع مجالًا للشك أن المصريين رجالًا ونساء، شيوخًا وأطفالًا، دائمًا على قلب رجل واحد ونسيج واحد وشعور واحد.
اقرأ أيضًا: رمضان حول العالم.. اكتشف أجواء الاحتفال بشهر رمضان المبارك
كتبت: سحر علي.