العشر الأوائل من ذي الحجة هي أيام أقسم الله بها في كتابه، بقوله: «وَالْفَجْرِ* وَلَيَالٍ عَشْرٍ»، أيام عدد الله الحديث عنها في القرآن الكريم بسمات وصفات مختلفة، فتارة تكون مشهودة في قوله “وشاهد ومشهود”، وتارة تكون معلومات في قوله: “وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ”، وتارة تكون متممة لميقات الخير والرشاد، حيث يقول الله تعالى: «وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً».

وفيما يلي حوار خاص مع دكتور عادل هندي أستاذ مساعد بكلية الدعوة الاسلامية جامعة الأزهر، للتعرف على ما يلي:

  • سمات العشر الأوائل من ذي الحجة.
  • صفقات عشر في العشر الأوائل من ذي الحجة.
الدكتور عادل هندي

الدكتور عادل هندي

سمات العشر الأوائل من ذي الحجة:

أولًا: أيام التجلي الإلهي وتمام الميقات، تجلى الله -عز وجل- في العشر الأوائل من ذي الحجة على موسى الكليم وعلى أرض مصر، عند جبل الطور، وأنزل فيها التوراة والألواح المقدسة.

ثانيًا: أكمل الله عز وجل في العشر الاوائل من ذي الحجة الدين وأتم علينا فيها النعمة، فقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} وكان ذاك في موسم الحج النبوي المبارك في يوم عرفة، عام 10 هجرية.

ثالثًا: هي أيام تميزت باشتمالها على أركان الإسلام مجتمعة، بما لم يتحقق لغيرها من مواسم العام ولا حتى رمضان ببركته وكراماته وعطاياه الشريفة، ففي تلك الأيام العشرة اجتمع التوحيد والصلاة والصيام والزكاة والحج.

سمات العشر الأوائل من ذي الحجة

سمات العشر الأوائل من ذي الحجة

رابعًا: هي أيام فيها خير يوم من أيام الله في العام، يوم عرفة، يوم التجلي والمغفرة والعتق من النار، يوم البهاء والنقاء والصفاء والشفاء والدواء، يوم من صامه فقد نال خيرًا كبيرًا، ومن كان في عشية عرفة من الحجاج باهى الله به ملائكته في أعلى عليين.

خامسًا: هي أعظم أيام السنة وأخيرها وأرقاها وأنقاها وأرجاها بشهادة الصادق المصدوق، ففي الحديث: “ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من أيام العشر”، فهل بعد ذلك من مبرر لمن أضاع تلك الصفقات؟

سادسًا: أيام اجتمع فيها الأفضلية للياليها وأيامها سواء بسواء بعكس غيرها، فقد أقسم الله بلياليها، وعظم أيامها كما سبق في كتابه المجيد.

اقرأ أيضًا: العشر من ذي الحجة.. دليلك لأفضل الأعمال المستحبة فيها

صفقات عشر في العشر الأوائل من ذي الحجة:

الصفقة الأولى:

صفقة التوبة النصوح، وبها يتحلل العبد من الذنوب إقلاعًا وعزمًا وندمًا؛ تلبية لنداء وأمر ربه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]، ولم لا؟ وربنا سبحانه جل في عُلاه -ليس كمثله شيء- يبسط يده بالليل ليتوب مسيئ النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيئ الليل، ومن أرباح تلك الصفقة: تحقيق الفلاح، غسل الذات من الذنوب، وكأن العبد قد وُلد من جديد.

الصفقة الثانية:

صفقة النية الصادقة، حيث النية الصادقة في القيام بأعمال الخير والبر، ونية صادقة في طلب الحج كالحجاج، ومن نتائج تلك الصفقة الرابحة أن صاحب النية الصادقة سيتمكن بقدر ربه من تحصيل ثواب الساعين والسالكين.

الصفقة الثالثة:

صفقة الصيام وسياحة العابدين، فمما لا شك فيه أن الصيام سياحة روحية وتربية زكية، وقد بلغنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما كان ليترك صيام العشر الأوائل من ذي الحجة، لاسيما يوم عرفة، ومن نتاج تلك الصفقة أن جعل سيدنا ومولانا ثواب صيام يوم عرفة يكفر ذنوب سنتين، كما بشر بأن من صام يومًا تطوعًا باعد الله بينه وبين النار سبعين خريفًا.

الصفقة الرابعة:

صفقة صنائع المعروف: إنها تلك الصفقة التي يرفع بها العبد الكرب عن المكروبين، ويعمل على تيسير الأمور على المتعسرين، صفقة تشتمل على الكثير من الصنائع العاصمة للعبد من الكروب والأقدار المؤلمة، من صدقة تطوعية يرفع بها الشقاء عن أصحاب البلاء، وجبر الخواطر لمن اغتم واهتم وامتلأ بؤسًا لألم ألم به، فهلموا لتلك الصفقة واستشعروا بيقين صدق قول الرسول الحبيب “صنائع المعروف تقي مصارع السوء”.

اقرأ أيضًا: مؤنسات الحرم المكي.. حكايات النساء اللواتي لا يغادرن مكة

الصفقة الخامسة:

صفقة تلبية القلب والروح، حيث يشارك العبد مع الكون والحياة والأحياء في عبادة جماعية كونية، شعارها: التوحيد، ولفظها: لبيك اللهم لبيك، ونتاجها: عروج القلب إلى الرب، ونتاجها: أنه كلما اقترب القلب من محراب العبودية، كلما كثرت العطايا والفتوحات الربانية، فليكن تلبيتك سلوكًا وعملًا وقربًا من ربك على كل حال، وتقديرًا لشرف الزمان والحال.

صفقات عشر في العشر الأوائل من ذي الحجة

صفقات عشر في العشر الأوائل من ذي الحجة

الصفقة السادسة:

صفقة الذكر، قال تعالى: “فاذكروني أذكركم”، شرف كبير للذاكرين أن يذكرهم من التجئوا إليه ذاكرين شاكرين أوابين، وقد أوصى رسول الله باستغلال أيام العشر الأوائل من ذي الحجة في الذكر والتهليل والتحميد والتسبيح والدعاء والاستغفار، فرصيد تلك الصفقة (تهليل، تكبير، تحميد، تسبيح، استغفار، دعاء)، ونتاجه: ذكر الله، وغفران الرب العلي سبحانه، والاقتداء بالنبي وإخوانه السابقين حيث كان يقول في يوم عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له..، وقال: هذا أفضل ما قلتُ أنا والنبيون من قبلي.

الصفقة السابعة:

صفقة الحب في الله وصلة الرحم، فهنيئًا للمتحابين في كل وقت، وهنيئًا لهم أكثر في هذه الأيام، حيث التعاون على البر والتقوى، يختار أحدهم صحبة تعينه على الطاعة، حتى إذا ذكر الله أعانوه، وإذا نسي ذكروه، صحبة تتعاون بحبها في الله ولله على الطاعات التي تدني من العلي الكريم، ولذا هي صفقة حقيقية، يمكن من خلالها: القيام بعمل إفطار جماعي، قبله دعاء وأذكار واستغفار، ومعه تبادل للدعوات بين المتحابين في الله، ومن نتاج تلك الصفقة، هذا النداء الكريم من الجليل -تعالى- يوم القيامة: “أين المتحابون بجلالي، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي”.

وأما صلة الرحم، فحين يتصالح المتخاصمون، ويتواصل المنقطعون عن بعضهم، ويندمج المتفرقون، ويتكامل المختلفون، وتتوحد الصفوف المؤمنة، وتتصافى القلوب المسلمة، حينها فقط تقوى الأمة ويأمن المجتمع، إنها صلة الرحم يزاد بها في العمر والأثر، وتكتب البركة لراغبيها وطالبيها، فجددوا الصلات قبل فوات الأوان، والعشر الاوائل من ذي الحجة فرصة لتحقيق التصافي، حيث من تصافى مع أخيه نال كرم الإله بالتباهي يوم عرفة، كما أن من وراء ذلك التضييق على شياطين الإنس والجن، فضلًا عن ثواب الله الذي أعده لمن وصل رحمه ولم يقطعه ولو قطعوه.

اقرأ أيضًا: يوم عرفة.. ماذا يحدث وما فضله والأعمال المستحبة فيه؟

الصفقة الثامنة:

صفقة الأخلاق الحسنة وتصحيح صورة الدين، إنها أيام تحتاج إلى عقلاء هذه الأمة، الذين يستوعبون أن التدين ليس بالشكل والهدي الظاهر وحده، بل بالتعبد والأخلاق معًا، ولذا قالوا: “من زاد عليك في الخُلُق فقد زاد عليك في الدين”، ورسولنا الحبيب حفز هممنا – لاسيما في هذه الأيام ويوم عرفة- نحو حفظ اللسان والسمع والبصر عن الحرام، فساهم أخي المسلم.. أختي المسلمة في تسويق الصورة الحسنة عن هذا الدين، والقلوب متشوقة والأبصار لرؤية الصادقين في انتمائهم لهذا الدين قولًا وسلوكًا، وتمثل هدي الرسول في أخلاقه، فقد كان خُلُقه القرآن.

الصفقة التاسعة:

صفقة يوم عرفة، أعظم الأيام، وأرجاها، وأنقاها، وأرقاها، يوم عرفة هو يوم العتق، والرحمات، والمغفرة، والقبول، والتوبة، والجنة، يوم صيام وقُربَى، اعتاد الناس على تقديره حتى عوام الناس، فمنهم من يصومه، ومنهم من يحرص على قراءة القرآن، وقد بشر الرسول بفضله وعظمته؛ ففي الحديث: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنْ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمْ الْمَلَائِكَةَ فَيَقُولُ مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ».

وحريّ بالعاقل من عباد الله أن يستغل هذا اليوم، ومن بين أعماله:

  • أولًا نية الصيام، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، إِنِّي أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ».
  • ثانيًا الاعتكاف فيه، في المسجد ما أمكن، وتحقيق نية الحبس لله تعالى وحدة والخلوة معه، وبرمجة اليوم على الطاعة والعبادة، والانخلاع لله وحده لا لغيره.
  • ثالثًا الاجتهاد في الدعاء الكثير والذكر والتهليل، وكل أنواع الأذكار الراقية.
  • رابعًا قول: “لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير”.
  • خامسًا الاستماع لخطبة عرفة، ومشاهدة الحجاج في المشاهد وعلى عرفات الله يلبون ويناجون ويبكون.
  • سادسًا رصيد القرآن قراءة وتدبرًا وتأملًا وتفكيرًا.
  • سابعًا الصدقة الخارجة بنية رفع الكرب والبلاء عن المهمومين والمحرومين.
  • ثامنًا الدعاء طوال اليوم، لاسيما عند الإفطار، فللصائم عند فطره دعوة لا ترد، فكيف لو كان في يوم عرفة والمباهاة الربانية؟

الصفقة العاشرة صفقة الأُضحية:

ففي الصحيح ما روى الترمذي وابن ماجه عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ يَوْمَ النَّحْرِ عمَلًا أحَبَّ إلى اللهِ -عزَّ وجلَّ- مِنْ هراقةِ دَمٍ، وإنَّهُ ليَأْتِي يَوْمَ القِيامَةِ بِقُرُونِها وأظْلافِها وأشْعارِها، وإنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِن اللهِ -عزَّ وجلَّ- بِمَكانٍ قَبْلَ أنْ يَقَعَ على الأرْضِ، فَطِيبُوا بِها نَفْسًا”، وفي حديث آخر أخرجه الحاكم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لفاطمة: “قومي إلى أضحيتك فاشهديها، فإنه يغفر لك عند أول قطرة من دمها كل ذنب عملتيه، وقولي: إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين”.

كما أن من نتائج المشاركين في تلك الصفقة الربح الكبير بأن يغفر الله لصاحبها عند أول قطرة من دمها كل ذنب، فقد روى الإمام أحمد وابن ماجه عن زيد بن أرقم قال: قال أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذِهِ الْأَضَاحِيُّ؟ قَالَ: سُنَّةُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ، قَالُوا: مَا لَنَا مِنْهَا؟ قَالَ: بِكُلِّ شَعْرَةٍ حَسَنَةٌ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَالصُّوفُ؟ قَالَ: بِكُلِّ شَعْرَةٍ مِنَ الصُّوفِ حَسَنَةٌ”.

واخيرًا من رحمة الله بهذه الأمة الخاتمة، ومن معالم محبته لها ولأتباعها أنه -سبحانه- يسر لها سبل الطاعة وطرق النجاة، فما إن ينتهي موسم للخير حتى يأتينا موسم جديد، يأخذ بأيدينا ويضع علينا ظلاله، وها هي العشر الأوائل من ذي الحجة موسم أقسم الله به على عظمته وقدرته وكماله، موسم امتلأت أيامه بصفقات من عمل بها ربح، ومن ضيعها فقد أضاع خيرًا كبيرًا.

اقرأ أيضًا: تفاصيل إحرام الكعبة.. من تشمير الأستار إلى ثوبها الجديد

كتبت: نيفين رضا الدميري.