في ظل الأحداث المتلاحقة في المنطقة العربية، والتي تتسارع وتيرتها بشكل يرهق الأنفاس، يبرز لنا التاريخ المصري كمرآة نستلهم منها العبر والدروس، فالأحداث الجارية اليوم ما هي إلا نتاج خطط محكمة نُسجت في ظلمات الليل، مخلفةً آثارًا واضحة على واقعنا الراهن.
مصر في عهد الخديوي إسماعيل.. نموذج من التاريخ المصري:
يُعتبر عهد الخديوي إسماعيل محطة بارزة في التاريخ المصري الحديث، حيث تميز بطموح كبير ورؤية واسعة لتحويل مصر إلى دولة أوروبية في شكلها وسلوكها، يقول الكاتب الفريد سكاون بلنت في كتابه التاريخ السري لاحتلال إنجلترا مصر: “رأى المصريون رؤى العين إن حكومتهم لم تبقَ لهم، وأن استقلالهم الذاتي الذي اشتروه بدمائهم… جعلته ديون إسماعيل حبرًا على ورق”.
هذا الاقتباس يعكس مدى تأثير سياسات إسماعيل الاقتصادية الطموحة، التي أوقعت مصر في دوامة من الديون أفقدتها استقلالها الاقتصادي، ما مهد الطريق للتدخل الأجنبي في شئونها الداخلية.
اقرأ أيضًا: البنك المركزي المصري وأزمة الديون2022
الديون أصل كل بلاء:
من أخطر التحديات التي واجهتها مصر في عهد إسماعيل هو إغراقها بالديون، فرغم امتلاكها أصولًا اقتصادية قوية ومشروعات عظيمة كقناة السويس، فإن هوس إسماعيل بتحويل مصر إلى دولة أوروبية دفعه إلى الاستدانة بفوائد مرتفعة وصلت إلى 60%، هذه القروض الضخمة استخدمت في بناء القصور واستضافة الاحتفالات الفخمة مثل أوبرا عايدة، التي بلغت تكلفتها ثلث إيرادات الدولة السنوية.
وبلغت ديون مصر 100 مليون جنيه في عهد إسماعيل، وهو مبلغ ضخم مقارنة بإيرادات الحكومة التي لم تتجاوز 9 ملايين جنيه، لتعويض هذا العجز باع إسماعيل 50% من أسهم قناة السويس مقابل 4 ملايين جنيه فقط، ورغم ذلك لم يتمكن من تسديد سوى أقساط قليلة من الديون.
التداعيات الاقتصادية والسياسية للديون في عهد الخديوي إسماعيل:
لم يكن بيع أسهم قناة السويس كافيًا لتغطية الديون الهائلة، مما اضطر الخديوي إسماعيل إلى اتخاذ قرارات أكثر خطورة، فقد فرض ضرائب مرهقة على الشعب، حيث زادت من 40 قرشًا إلى 160 قرشًا على الفدان الواحد، هذا القرار أثقل كاهل المواطنين، ودفعهم إلى بيع ممتلكاتهم وحتى حُلي نسائهم لتسديد الضرائب.
ورغم هذه المحاولات لم تتمكن الحكومة المصرية من تسديد أقساط الديون، ونتيجة لذلك وافق الخديوي إسماعيل على وصاية مالية أجنبية، حيث تم تسليم إدارة الحكومة لوزيرين أوروبيين أحدهما فرنسي والآخر إنجليزي، كانت هذه الخطوة بداية لفقدان السيادة الاقتصادية، ما أدى لاحقًا إلى الاحتلال البريطاني عام 1881.
وجهات النظر حول عهد الخديوي إسماعيل:
يبقى عهد الخديوي إسماعيل من أكثر الفترات إثارة للجدل في التاريخ المصري، فبينما يراه البعض حقبة ذهبية شهدت تطورًا عمرانيًا وحضاريًا كبيرًا، يراه آخرون فترة مليئة بالأخطاء الكارثية التي وضعت مصر على طريق فقدان استقلالها، على سبيل المثال يعتبر أنصار الخديوي إسماعيل أن إنشاء قناة السويس، وتشييد دار الأوبرا، وتطوير البنية التحتية إنجازات عظيمة رفعت مكانة مصر الدولية، في المقابل يرى معارضوه أن هذه المشاريع كانت مجرد مظاهر باهظة الثمن دفع الشعب ثمنها على حساب معيشته واستقراره الاقتصادي.
ولذلك فإن دراسة التاريخ المصري تظهر لنا كيف يمكن للقرارات غير المدروسة أن تؤدي إلى فقدان السيادة الوطنية، فالديون لم تكن مجرد أرقام مالية، بل كانت أداة سياسية استخدمها الأوروبيون للسيطرة على مصر، هذا المثال يدعونا إلى التأمل في السياسات الاقتصادية المعاصرة؛ لتجنب الوقوع في الفخاخ ذاتها التي أدت إلى أزمات الماضي.
في النهاية، يبرز التاريخ المصري أن الفهم العميق للماضي هو المفتاح لتجنب أخطاء المستقبل، فالتاريخ ليس مجرد أحداث ماضية، بل هو مرآة تعكس مسارات الحاضر وتوجهنا نحو مستقبل أفضل، وبينما يختلف المؤرخون حول تقييم عهد الخديوي إسماعيل، يبقى المؤكد أن تلك الفترة مليئة بالدروس والعبر التي يجب ألا تغيب عن أذهاننا.
اقرأ أيضًا: رأس الحكمة.. تحت ضغط الديون وجاذبية الاستثمارات
كتب: أحمد عبد الواحد إبراهيم.