FB IMG 1586005098674

” لجسمك عطرٌ خطير النوايا، يقيم بكل الزوايا
ويلعب كالطفل تحت زجاج المرايا
يعربش فوق الرفوف، يجلس فوق البراويز
يفتح باب الجوارير ليلاً، ويدخل تحت الثياب
لجسمك عطرٌ خطير النوايا
لجسمك عطرٌ به تتجمع كل الأنوثة، كل النساء
يدوِّخني، يذوِّبني، ويزرعني كوكباً في السماء
ويأخذني من فراشي إلى أيّ أرض يشاء
وفي أيّ وقتٍ يشاء “

ظلت تداعب خصلاتها وهي تستمع لتلك الاغنية، تشعر دائماً أن القيصر يتغنى بتلك الكلمات لها هي أو هذا ماقاله لها ذلك الرجل الآتي من جنوب مصر، أكثر من عشر سنوات مرت على لقائهما الاخير كانت لا تزال فتاة صغيرة في الثالث والعشرين من عمرها، شغفها ذلك الثلاثيني عشقاً لكن لسوء حظه أن وقع في شراكها قبل أن يقتنصها هو.. عادت تفاصيل ذلك اليوم إلى رأسها لتذكرها بالرجل الذي علمها جيداً ماهو الخداع والقنص، وكان السبب في وصولها إلى قمة مجدها اليوم..

كانت (كاميليا) تتأهب لتلحق بـ( فارس) في مقهاهما المفضل للاستمتاع بفنجاني قهوة مميز، تلك الغادة الهيفاء التي تتحلى ببشرة بيضاء مائلة للصفرة بعينين عسليتين وشعر بندقي فاتح وبعض التبر الذهبي يزين وجنتيها، صدرها وأعلى كتفيها كأنه نْثر عليها من السماء، أسدلت فوق قدها المتناسق فستان أحمر قصير يكشف عن ساقين ناعمتين، ثم تزينت ومن ثم خرجت متلهفة للقياه.

اعتاد ذلك الأسمر دائماً الوصول قبل موعده بنصف ساعة حتى يتسنى له تدخين الأرجيلة وتجرع كوب شاي ثقيل قبل مجيئ عصفورته القاهرية، لم يكن فارس وقتها سوى صحفي بجريدة من جرائد القطاع الخاص محرر الصفحةالأدبية وله عمود ثابت لمقالاته، ابن الصعيد الذي تربى على عادات وتقاليد خالفها جميعاً، حمل الاثقال أعطى جسده تناغم ساحر مع طوله الفارع، ورغم وصوله للثلاثينيات ولم يتزوج فهو يتمتع بحياة مليئة بالمغامرات، لكن حينما قابلها علم أن هناك جمال خاص جداً اختصرته الحياة فيها هي فقط، فقرر على الفور اقتناص تلك الجميلة ووضعها فوق أرفف حياته، إنه صياد ماهر يقتنص الجمال الفريد والنادر للأحتفاظ به وامتلاكه فقط.

دقت الساعة الثالثة عصراً فسبقها عطرها وأعلن عن قدومها، رأته فابتسمت في مشهد يتلاقى عنفوان ثلاثينياته الباهر بإنوثة عشرينياتها الزاهرة، إنها أنضج فريسة ألتقطها يوماً وأصغر تحفة امتلكها، بادرته قائلة: أين كنت تلك الفترة يافارس؟ اشتقت لك كثيراً، لن أغفر لك عدم احتفالك معي بعيد مولدي.
نادى على النادل وطلب منه رفع كوب الشاي الفارغ والارجيلة ثم يأتيهما بفنجاني قهوة مضبوطين، التفت لها بعدما أنهى حديثه مع النادل وقال: عذراً صغيرتي اضطررت للسفر إلى بلدتي فوالدتي كانت مريضة وهناك الهاتف الخلوي لم يلتقط اشارة فلم استطع مهاتفتك.. ماذا حدث اثناء غيابي؟!
بنظرة ناعسة وصوت خفيض قارب الهمس: افتقدتك اليس هذا كافياً لقلب أيامي رأساً على عقب؟! منذ أن عرفتك وأنت كظلي وبجواري في كل لحظات حياتي، ثلاث سنوات ياللأيام!! تمضي سريعاً.
ابتسم بجانب شفتيه دلالة على الظفر بعد الصبر، فالصيد يحتاج صبر قدر مايحتاج إلى مهارة ثم قال لها: قابلتك أول مرة في ندوة عن الصحافة عقدتها جامعتك، ومنذ ذلك الحين أخذت على عاتقي تدريبك لتصيري صحفية عظيمة وكاتبة كبيرة، فتلميذتي الان صارت محررة في قسم الأدب ولها خواطر وقصص تتحاكى عنها الفتيات والشباب.

قطع النادل حديثهما فوضع القهوة امامهما ثم طلب منه فارس أن يضعوا أغنية ليستمتعوا بها مع القهوة، دقائق وصدح صوت كاظم الذي شاركهم كل لحظاتهم

“لو لم تكوني أنتِ في حياتي
كنت اخترعت امرأة مثلك ياحبيبتي
قامتها جميلة طويلة كالسيف
وعينها صافية مثل سماء الصيف”

نظر لها طويلاً كمن يتأمل تمثالاً عاجياً لربة الجمال ويحسد نفسه على ماأمتلك وكأن كاظم ينطق بما يشعر به هو، انتهيا من احتساء قهوتهما وقبل أن يرحلا قام فارس ليذهب للمرحاض، وفور دخوله أتتها سيدة في اواخر العشرينات، ممتلئة بعض الشئ، خمرية، ترتدي فستان طويل محتشم تعقص شعرها الفاحم بأعلى رأسها وقليل من الزينة عليها وقالت: مساء الخير، هل لي بسؤال؟
اجابتها كاميليا ببعض الريبة: تفضلي.
جلست السيدة وهي تقول: أنتِ لا تعلمين من أنا، لكن كي أختصر مقدمات كثيرة أريد أخبرك بشئ خطير يخص فارس.

أنتبهت للحديث بمجر أن جاءت على ذكر حبيبها فعدلت من جلستها، فأكملت السيدة : أنا كنت على علاقة به منذ سنوات وبعد فراقنا بشهر علمت بإرتباطه بكِ من أحد اصدقائه، وذلك الصديق أصبح فيما بعد زوجي وهو من وقف بجواري بعد حالة الانهيار التي مررت بها بعد فراق فارس.
دهشة، عدم تصديق، فضول احاسيس مختلطة تعبث بقلب كاميليا وظهرت آثارها على وجهها، فعادت السيدة تسترسل : أريد أن أحذرك منه فهو لا يقترب إلا من الفتيات الصغيرات قليلات الخبرة، بنات رجال مرموقين حتى يستطيع أن يستغل نفوذ والدها قدر المستطاع، وإن لم تصدقيني فسأثبت لكِ كل كلمة قلتها، عندما يعود فارس من المرحاض اذهبي أنتِ ايضاً إلى هناك.

أخذت السيدة هاتف كاميليا واتصلت منه بهاتفها وتركت الخط مفتوح وقالت: الان ستسمعي كل ماسيدور بيننا وتتأكدي من كل ماذكرته.
اعطتها هاتفها ثم عادت لطاولتها البعيدة، وعندما أتى فارس نفذت كاميليا ماطلبته منها السيدة وهي تحت تأثير صدمة توشك أن تميتها، فذلك الرجل الذي وصلت به مشاعرها لدرجة التقديس والالوهية أصبح أوضع وأدنئ من أقل جرذ، قاطع صوتها الداخلي بداية الحديث الذي بدأ بين فارس وهذه السيدة..
– فارس.. أين أنت ياصياد؟ لم أرك منذ زمن بعيد، من تلك الجميلة؟! أهي فريستك الجديدة؟
لم يرتبك صوت فارس واجاب: أهلا سلوى، لم أتوقع وجودك هنا، وماذا إن كانت هي فتاتي الجديدة، هل اصابتك الغيرة؟؟
ضحكت سلوى بصوت عالِ وقالت: أنا أغار؟ لا ياعزيزي لم أعد أشعر بهذه المشاعر والفضل لك.. ولكن ماذا تريد منها؟
– والدها من سيريد مني، أتعرفين من والدها؟ إنه سمير الكامل أكبر رجل اعمال، حين يعلم بعلاقتنا واننا نريد الزواج سيغدق علينا من خزائنه مايجعلني أنتهي من الفقر نهائياً وأصبح صاحب جريدة مشهورة، اذا هي فريسة لا تعوض.
جاء صوت سلوى وهي تنهي حديثها: أتمنى أن تحدث معجزة ما وتنقذ تلك المسكينة من براثنك.. سلام ياصياد.

تركت سلوى الطاولة كما تركت شرخ غائر بصدر كاميليا، عادت كاميليا من المرحاض ولم تنبس ببنت شفه تعجب فارس من حالتها فتعللت بالتعب المفاجئ وطلبت منه أن يعيدها للمنزل، ايام تلتها ايام أخرى وكاميليا تتحاشى فارس لم ترد على مكالماته أو رسائله فيأس وتركها بعدما حاول اعادتها بشتى الطرق وهو يبحث عن فريسة جديدة، حتي مضى ثلاث أشهر.

وفي ليلة وصلت رسالة لفارس عن طريق بريده الإلكتروني فيها مكالمة مسجلة، علم وقتها أن سبب فراق كاميليا انها علمت بقذارته. لم يمضي العام حتى تزوجت صاحب جريدته والذي كان مهرها هو أن يكتب الجريدة بإسمها وتصير هي صاحبتها وقد كان ما أرادته، بعد عام اخر أصبحت هي رئيس التحرير وأذاقت فارس كل صنوف الاذلال لعامين حتى ترك العمل فأوصت الجميع من رؤساء التحرير بالجرائد الأخرى بعدم تعيينه لسوء سلوكه، وبما إنها زوجة رجل اعمال كبير ووالدها حوت اقتصادي اكبر فكانت كلمتها مسموعة، فتلك الصغيرة التي عشقته أصبحت هي الكابوس الذي يطارده حتى اعادته إلى بلاده دون هوية أو كرامة.

استفاقت من ذكرياتها وعلى محياها الثلاثيني ابتسامة الفوز على قلبها، برائتها وخنوعها وعرفت اخيراً من أين تؤكل الكتف.

(تمت)

كتبتها/ إيمان الخطيب