يعد جامع الظاهر بيبرس حجر الأساس للمنشآت الدينية للدولة المملوكية تلك الدولة التي ظلت قوية ومستقرة ما يقرب من ثلاثة قرون وحققت نجاحات باهرة وصلت على الصعيد السياسي والعسكري إلى حد الانتصار على قوتين كانتا على وشك القضاء على الدولة الإسلامية في المشرق والمغرب هما التتار والصليبيين.

سلاطين المماليك عرفوا بافتقارهم لأبسط أشكال ومؤهلات شرعية الملك في زمانهم فهم مجموعة من العبيد الذين بيعوا واشتروا مرات حتى وصلوا إلى القاهرة ولكنهم تميزوا بالفروسية والقدرة على القتال واستطاعوا الوصول للحكم وإنشاء دولة قوية.

قام ببناء الجامع الظاهر ركن الدين بيبرس سلطان الديار المصرية والبلاد الشامية والأقطار الحجازية ولد في جنوب روسيا وهناك قضى طفولته واسم بيبرس يعنى فهد.

في صباه اختطف بيبرس من بلاده وبيع في سوق الرقيق وتنقل بين أيدي تجار الرقيق من بلد إلى آخر إلى أن عُرض وزميل له على الملك المنصور صاحب مدينة حماة ولأن المنصور كان صغيرا فقد اعتاد أن يستشير والدته عندما يقدم على شراء الرقيق وعندما رأتهما والدة المنصور من وراء الستار نصحت ابنها بشراء رفيق بيبرس أما هو فقد حذرته منه قائلة ” هذا الأسمر لا تكون بينك وبينه معاملة فإن في عينيه شرا لائحا ”

وظل بيبرس بضاعة راكدة لدى تاجر الرقيق حتى أشفق عليه الأمير علاء الدين البندقداري واشتراه وأخذه معه إلى القاهرة غير أنه لم يظل في خدمته طويلا فقد صادره منه الملك الصالح نجم الدين أيوب وأعتقه وضمه إلى مماليكه المقربين لتبدأ صفحة جديدة في حياة هذا المملوك الأسمر المغامر.

بعد وفاة الملك الصالح في أواخر عام 1249م تولى قيادة البلاد ابنه توران شاه واستطاع بجيشه من المماليك الانتصار على الصليبين فى معركة المنصورة وأسر الملك لويس التاسع ملك فرنسا ولكن سرعان ما تخلصت شجرة الدر زوجة الملك الصالح من ابنه توران شاه وتمكنت من الجلوس على عرش مصر ولكنها أُجبرت على التنازل لعز الدين أيبك الذي انقلب على بيبرس والمماليك البحرية وقتل زعيمهم فارس الدين أقطاي فهرب بيبرس بهم إلى الشام وظل هناك حتى عام 1258م وعندما استولى التتار على بغداد في هذا العام عاد بيبرس على رأس المماليك البحرية وانضم إلى قطز الذي أعلن نفسه سلطانا على مصر بعد مقتل عز الدين أيبك.

في ذلك الوقت كانت المدن الشامية تتساقط تباعا في أيدي التتار فأرسل هولاكو مع جنوده رسالة تهديد للمظفر قطز فما كان من قطز إلا أن قتل رسل هولاكو وعلق رؤوسهم على باب زويلة.

غير أن ذلك لم يزد التتار إلا هياجا فواصلوا زحفهم المدمر قاصدين غزة والخليل فأرسل قطز مقدمة جيشه بقيادة بيبرس لملاقاتهم عند غزة وبالفعل نجح في إيقاف زحفهم حتى وصل قطز على رأس بقية الجيش وأوقع بهم الهزيمة الشهيرة عند قرية عين جالوت.

بعد معركة عين جالوت أصبح السلطان قطز سيد الموقف في الدول الإسلامية واستقبلته دمشق استقبالا يليق بفاتح عظيم وخرجت القاهرة لاستقباله غير أن الأطماع والمؤامرات حرمت قطز من العودة إلى القاهرة حيث قام بيبرس مع زملائه من المماليك البحرية بتدبير خطة للخلاص منه نهائيا وعندما خرج قطز في رحلة صيد عند الصالحية تم تنفيذ الخطة القاتلة ويروى أن بيبرس اقترب من صديقه الحميم قطز وطلب امرأة من سبايا التتار فأجابه قطز على الفور فتظاهر بيبرس بالفرح وبالرغبة في تقبيل يد السلطان وبمجرد أن ناوله السلطان يده قبض عليها بقوة شلته عن الحركة فتمكن أمراء المماليك البحرية من الانقضاض على السلطان بسيوفهم ورماحهم حتى مات.

ويبرر بعض المؤرخين موقف بيبرس بأن قطز لم يف بوعده له بتوليته نيابة حلب غير أن التبرير الحق هو تلك المغامرة القاتلة التي لم يتورع كافة أمراء المماليك عن اقترافها في سبيل سعيهم للسلطة.

وهكذا دخل الظاهر بيبرس القاهرة سلطانا ومظاهر الزينة التي كانت معدة لاستقبال السلطان القتيل تحولت لاستقبال السلطان القاتل وخرج المنادون في طرقات القاهرة يصيحون ترحموا على الملك المظفر قطز وادعوا لسلطانكم الملك القاهر ركن الدين بيبرس.

 

كان السلطان بيبرس شغوفا بالمنشآت الدينية فقام بتجديد العديد من الجوامع وفي عام 665هـ أصدر السلطان بيبرس مرسوما يقضي بالبدء في أعمال بناء جامع كبير يحمل اسمه على مر التاريخ واختار ميدان قره قوش ليكون موقع البناء واستغرق تنفيذ الجامع عامين وافتتحه الظاهر بيبرس في احتفال كبير عام 667هـ ومنذ ذلك التاريخ ظلت شعائره مقامه وصار محل عناية واهتمام سلاطين المماليك ولكنه أهمل بعد زوال دولة المماليك وشنق أخر ملوكهم السلطان طومان باي على باب زويلة ففي عهد العثمانيين تحول إلى مخزن للمهمات الحربية والخيام والسروج كما حوله الفرنسيون أثناء احتلالهم لمصر إلى ثكنات للجند وفي عهد محمد على تحول إلى مخبز للجراية ثم مصنع للصابون وهدم منه جزء كبير عمدا عام 1812م فانهارت بعض أركانه ونفائسه ونقل الشيخ الشرقاوي منه أعمدة لبناء رواق الشراقوة بالجامع الأزهر كما استعملت بعض أعمدته في بناء قصر النيل وفي عام 1882م حول جيش الاحتلال الإنجليزي جامع الظاهر بيبرس إلى مخبز ثم مذبح حتى إعلان استقلال مصر وفي عام 1918م تسلمت لجنة حفظ الآثار العربية الجامع ورممته وحولت المنطقة المحيطة به إلى متنزه وفي عام 1970م بدأت إعادة ترميمه مرة أخرى.

توفى بيبرس وهو في الخمسين من عمره عام 1277م بعد بناء الجامع بحوالي عشر سنوات وبالرغم من خيانته لقطز لكنه تميز بشجاعة نادرة خلدت اسمه في التاريخ.